للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث عن المنهج]

د. طارق عبد الحليم

الحديث (حول) منهج أهل السنة والجماعة حديث تطمئن إليه قلوب

المؤمنين وتنشرح له صدورهم؛ فهذا المنهج هو طريقهم السوي إلى بر الأمان في

خضم تلك البدع والأهواء والفتن المتلاطمة التي يجر بعضها بعضاً للقضاء على

زمرة أهل الحق.

لكن الحديث (حول) المنهج أمر، والحديث (عن) المنهج أمر آخر... ...

فالحديث حول المنهج، الذي اطمأنت به نفوس المؤمنين في السنوات الماضية قام

على الدعوة للرجوع إلى هذا المنهج القديم وتحبيب الناس فيه، والتركيز على أنه

لا منهج سوي سواه، ولا منجى مما يحيق من فتن إلا به.. فهو المنهج الذي أسسه

محمد-صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي سار عليه أعلام الصحابة والتابعين وأئمة

المسلمين من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، ما انحرف عنه أحد إلا دخلته

بدعة وفارقته سُنة، وبعد عن القصد، وقرب مما ليس فيه مصلحة.

أما الحديث (عن) المنهج فهو يعني: بيان أسس ذلك المنهج.. تقعيد قواعده

وتفريع فروعه.. بيان مبادئه وتفصيلاته، وشرح كلياته وجزئياته.. وهو ما

يحتاجه مسلمو اليوم ممن اطمأنوا إلى ضرورة اتباع هذا المنهج والسير على خطاه..

إن (منهج) أهل السنة والجماعة ليس هو (فتاوى) أهل السنة والجماعة أو

(مذهب) أهل السنة والجماعة الفقهي أو الحركي.. إنه (أسلوب) في النظر إلى الأمور الثلاثة التي تشكل مسار الدنيا، والتي يختلف عليها الناس في كل آن ومكان: الأفكار، والأشخاص، والأحداث.

المنهج هو: (طريقة) في البحث والتحري عن الحقيقة - أو بالأحرى: عن

الحق - تضيِّق نطاق الخلاف حول تلك الأمور الثلاثة التي ما فتىء الخلاف حولها

يهدد كيان المسلمين ويزعزع بنيانهم، وأهم من ذلك أنه الوسيلة التي تجعل النية

والقول والعمل موافقاً لسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، أو قل إن شئت:

(هو تلك الأسس والقواعد الشرعية والعقلية التي يدرب عليها عقل المسلم؛ فتكون

قالباً تُصاغ من خلاله حركاته وسكناته.. أقواله وأفعاله.. إقدامه وإحجامه في كافة

شؤون حياته) .

إذن، ما هو ذلك المنهج أو الأسلوب أو الطريقة التي ما زلنا نتحدث عنها

وندعو إليها؟

سؤال يحتاج أن تتجرد له عزائم الرجال، وتتفرغ له أوقاتهم، وتشحذ عقولهم

لوضع تفاصيل ذلك المنهج وحدِّ حدوده ورسم معالمه.

أنواع المناهج:

نوعان من المناهج يتبعها الباحثون في المجالات العلمية أو النظرية، تجدر

الإشارة إليها كأحد المعالم الهادية إلى تحديد نوعية المنهج المراد؛ وهما:

أولاً: تلك المناهج التي توضع تفصيلاتها وتحدد معالمها قبل البحث المقصود

إليه أو المراد إنشاؤه، ويطلق عليها (أسلوب البحث) إن تعلقت بمبحث علمي، أو

(خطة البحث) إن تعلقت بأمر عملي فيزيقي، أو (خطوات البحث) إن تعلقت بأمر عمليّ في مجال الأعمال والتجارة وغيرها. هذه المناهج غالباً ما تكون مقصورة على البحث الذي وضعت لأجله.

ثانياً: تلك المناهج التي تستشف معالمها وتستنبط مبادئها من واقع حالٍ

وظروف قائمة وأحداث واقعة - سواء في الماضي أو الحاضر - لتكون هيكلاً في

البحث وطريقة في النظر؛ تتبع فيما يستحدث من وقائع أو ظروف أو أحداث في

المستقبل، وهو ما نرمي إليه في الحديث عن منهج أهل السنة والجماعة. وأقرب

ما وجدناه من معنى يعبر عن ذلك في معجم المباحث الغربية هو كلمة SCEME.

هذا النوع من المناهج هو ما استعمله (ديكارت) في كتيبه الشهير الموسوم

بـ: (مقال في المنهج) ، وهو الذي نبتت أفكاره من بذور الفكر الذي ساد تلك

الحقبة من الزمن، والذي قامت على أساس هدم الفكر الديني الكاثوليكي، وفصل

الدين عن السياسة، والوقوف في وجه طغيان الكنيسة وسيطرتها على مصائر

الناس، مما أشاع فكر (التحرر) وضرورة (الشك) في المسلمات السائدة. ذلك

المنهج الديكارتي هو الذي سيطر فمما بعد على مجالات الفكر النظري والعملي

الغربي، وأنشأ قواعد الفكر الغربي الحديث.

بين المنهج والقانون:

ومما يجب أن نلفت إليه النظر هو: ضرورة التفريق بين القانون أو النظرية

وبين المنهج، إذ أن الخلط بينهما يؤدي إلى أخطاء كثيرة في البحث والتطبيق

جميعاً.

فالقانون أو النظرية مع اختلافهما في درجة التوثيق هما قالب تفسر فيه

أحداث واقعة، سواء في الماضي أو الحاضر، تحت ظروف محددة خاصة،

وتنطبق أوصافهما وتتحقق نتائجهما كل مرة تتحقق فيها تلك الظروف أو الشروط،

كما في النظريات والقوانين العلمية بشكل عام.

فهي قوالب كلية استنبطت من جزئياتها [١] من جهة، ثم فسرت بها

الجزئيات المستحدثة، بعد ذلك من جهة أخرى.

أما المنهج فهو وإن كان قالباً أو هيكلاً للبحث يقوم على أحداث ووقائع كما

ذكرنا، إلا أنه أسبق في الوجود الذهني وأعلى في الدرجة من الكليات والقوانين؛

إذ على أساس منه وفي حدوده ومن خلاله تستنبط تلك الكليات والقوانين التي تفسر

من خلالها الوقائع وتقدم الحلول والنتائج، أو الأحكام الشرعية والفتاوى في التعبير

الشرعي.

فهو إذن مصدر الكليات والقوانين، لا بأعيانها وذواتها، وإنما بذلك التحديد

الذي تضعه فرضياته ومبادئه لتحكم به مسار الفكر واتجاه البحث الموصل إلى تلك

القوانين والكليات.

ولنضرب مثالاً على ما نقول:

فإن القاعدة الكلية - أو القانون إن شئت - (رفع الضرر) قد استنبطت من

جزئيات عديدة تكررت في مواضع عديدة من الشريعة مؤدية لذلك المعنى.

فقد قال تعالى: [لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا] ، وقال: [ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً

لِّتَعْتَدُوا] ، وقال-صلى الله عليه وسلم -في الحديث: (الجار أولى بالشفعة) أي:

أن الشريك أو الجار أولى بالشراء من الغريب عند رغبة البيع، حتى لا يأتي من

يضر المالك في ملكه أو جواره.

كذلك الرد بالعيب في البيوع، وحكم الحجر على السفيه، وشرع القصاص؛

فإن فيه رفع الضرر عن العباد بكف أذى المعتدين. بذلك جاء في الحديث: «لا

ضرر ولا ضرار» ، وهو مروي في (الموطأ) مرسلاً، كذلك أخرجه الحاكم في

(المستدرك) والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من

حديث ابن عباس، وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن معناه صحيح مقرر في أماكن عديدة

من الشريعة.

كل ما سبق هي جزئيات أدت إلى استنباط قانون عام كلي هو (رفع الضرر) .

والمنهج الذي أدى إلى استنباط تلك القاعدة من جزئياتها ففرضياته المتعلقة بها

عديدة، منها العملية ومنها الشرعية، نذكر منها:

فرضية عقلية: أن الوقائع المتكررة في معنى واحد تؤكد ذلك المعنى وتقرره.

فرضية شرعية:

* أن الأحكام الشرعية إنما قصد بها جلب مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.

* أن مقصود الشرع هو تحقيق (أفضل) الحلول الممكنة حسب الواقع لا

الخيال.

* تساوي الناس في حق تحصيل المنفعة ودفع المضرة.

وماذا بعد؟

في إطار ما قدمنا يحق للقارئ أن يتساءل: إذن ما هي مصادر منهج أهل

السنة والجماعة؟ ، ما هي معالمه ومبادئه؟ وما هي حدوده؟ ثم ما هي قواعده

وتفاصيله؟ أيطابق منهج أهل السنة في النظر والاستدلال منهجهم الحركي أم يغايره

في بعض تفصيلاته؟ إلى آخر تلك التساؤلات التي آن لها أن تجد أُذُناً صاغية

وعقولاً واعية.

ولأن الغرض الأساسي من حديثنا هذا عن المنهج هو إلى شحذ الفكر، وطرح

السؤال أكثر منه إلى إملاء الفروض وتقرير الجواب، فإننا نكتفي بهذا القدر،

وندعو إلى المشاركة في وضع تلك المعالم والتفصيلات. فقد آن لنا ذلك،

والمسلمون بحاجة شديدة إلى مثل هذا العمل، والله الموفق والهادي إلى سواء

السبيل.


(١) ونعني بالجزئيات: الوقائع والأحداث التفصيلية التي تشكل بمجموعها قانوناً عاماً أو كلية كما يعبر عنها في أصول الفقه.