للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإنسان بين العبادة والحضارة]

د. نعمان عبد الرزَّاق السَّامَرَّائي

حضرت ندوة حول (المشاكل التربوية) في عالمنا المعاصر، وقد وجدت

الانقسام واضحاً، فهذا يركز على الفرد، وذاك على المدرسة، وثالث على الإعلام، ورابع على الوضع السياسي، وخامس على الاستعمار، وسادس على الشيطان ...

كما وجدت البعض يقول بأن الحل معرفة العلوم الشرعية، وينادي آخر بتعلم

العلوم كافة وهكذا.

وأريد أن أطرح سؤالاً ثم أنطلق منه؛ إذ من المعروف أن الإنسان (مخلوق

ثقافي غائي) ، فهو منذ نعومة أظفاره يتساءل لماذا نفضل كذا؟ لماذا نترك كذا؟ .

والسؤال: لماذا خُلق الإنسان؟

١- هل صحيح ما قاله (ماركس) إن المبدأ الذي يحكم جميع العلاقات بين

البشر هو إنتاج الوسائل التي يحددون حياتهم، وبعد ذلك يأتى تبادل ما أنتجوا،

وأن الإنسان يعيش أولاً ثم يفكر بعد ذلك. والذي أريده (تحديداً) هل هذه النظرية ...

كاشفة لواقع أم مقررة لحقيقة ابتداءً؟ ؟

بمعنى آخر: هل نظر ماركس للإنسان في الغرب فوجده كذلك، أم هي حقيقة

توصِّل إليها عن طريق البحث والاستقصاء؟

والأمر الآخر: لنفرض أن الإنسان إذا جاع أو عطش استبد به ذلك بحيث

صار كل همه أن يصل إلى الطعام أو الشراب، ولكن بعد أن يأكل أو يشرب ماذا

يفعل؟

هل يبحث عن قضايا واهتمامات جديدة أم يبقى محصوراً في دائرة (الإنتاج ...

وتبادل ما أنتج) ؟ ...

في العالم الرأسمالي الذي رآه - (ماركس) وعايشه - كان الإنسان والدولة ...

والمجتمع إلى حد كبير مشغولاً بالإنتاج وتوزيعه، حتى قال نيتشه: (اجمع اجمع ...

ذلكم هو الشريعة والقانون) أي اجمع المال فذلكم هو الهدف، من هنا صار (رأس ...

المال) ديناً جديداً، حتى قال برنارد شو الفيلسوف الساخر: (إن الشعب البريطاني ...

يعبد الله يوماً في الأسبوع) ويعبد (بنك باركليز) ستة أيام! .

ومن هنا جاءت قناعة (ماركس) ، فهي مأخوذة من الواقع متأثرة به، ولكن

تلاميذ (بني التلمود) ينكرون ذلك ويعطون أفكار الرجل الشمولية، علماً بأن

ماركس يرى أن الواقع ينطبع في ذهن الإنسان فتتحول الفكرة إلى مجرد صدى

للواقع ليس إلا، وهكذا كانت أفكار ماركس صدى لما رآه وعاشه من تكالب

استعماري وتطاحن حول ثروات الشعوب ونهبها.

٢- هل نذهب مع سارتر فيلسوف الوجودية في عبثيته إذ يقول: (إنهم

يكتشفون في وقت واحد، أن كل الأفعال الإنسانية سواء - وأنها بحتمية مبدئية -

محكوم عليها بالفشل ... وهكذا يستوي آخر الأمر أن أثمل بالشراب في وحدتي أو

أن أقود الشعوب) .

أما صاحبته (سيمون دوبوفوار) فتشرح هذه الفكرة بقولها: افعلْ ما ينبغي

لك وليكن ما يكون! .

فهل الحياة مسرح لتمثيلية (عبثية) لا يعرف الكاتب ولا المشاهد الهدف منها؟ . ...

٣- هل نقول بأن الإنسان حيوان قد سبق (إخوانه) وهو لم يبتعد كثيراً عن

الحيوانية في أهدافه وغاياته، فهو يأكل ويتناسل ثم يموت ولا شيء بعد ذلك ولا

فوق ذلك؟

إن الإنسان مخلوق غائي، خُلق لتحقيق أهداف كبرى يمكن ردها إلى:

١- عبادة الله - تعالى - كما أمر دون شرك، والعبادة - كما هو معلوم -

تطلق بإطلاقين:

فمَن يشتغل في بحث علمي أو رياضي أو أي عمل دنيوي يقصد به وجه الله

فهو في سبيل الله.

٢- العبادة بمعناها الخاص من صلاة وصيام وزكاة، وهذه أساسها النص

الصريح، وهي غير قابلة للتصرف بالزيادة أو النقص، أو التوجه لغير وجه الله

(تعالى) .

- عمارة الأرض: فقد ذكر الله - تعالى - في سورة هود [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ

الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: ٦١] ؛ فعمارة الأرض - كما يسميها ابن خلدون - هي إقامة الحضارة، وهي من مهمات الإنسان الأساسية الكبرى، وقد قام بها

الإنسان جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وكلما تعبت أمة تلقت الراية أمة فتية،

وتجد تضافرت جهود الأمم، وراح اللاحق يبني على جهود سلفه ويزيد ويطور.

فمَن أراد العمران فعليه أن يتعلم علوم عصره كلها، حتى قال علماؤنا في

(فروض الكفاية) أن الأمة كلها تصير آثمة إذا وجدت صنعة أو علم وليس في الأمة

من يعرفه أو يمارسه.

أما العبادة - بالمعنى الخاص - فعلى صاحبها تحري النص الصحيح والاتباع

والبعد عن الغلو والابتداع، فإن فعل ذلك فقد حقق الأهداف التي من أجلها خلق

وفاز في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم.

وللشهيد سيد قطب كلمة يقول فيها [١] ( ... لقد غابت الأمة المسلمة عن

الوجود وعن الشهود دهراً طويلاً، وقد تولت قيادة البشرية أفكار وأمم أخرى

وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى فترة طويلة، وقد أبدعت العبقرية الأوربية في

هذه الفترة رصيداً ضخماً من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد

ضخم تقف البشرية على، ولا تفرط فيه ولا فيمن يمثله بسهولة، وبخاصة أن العالم

الإسلامي يكاد يكون عاطلاً من كل هذه الزينة ... إن هذه الأمة لا تملك الآن وليس

مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي، تحني له الرقاب،

ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية فالعبقرية الأوربية سبقته في هذا المضمار

سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر - خلال قرون على الأقل-التفوق المادي عليها،

فلابد من مؤهل آخر، المؤهل الذي تفقده هذه الحضارة.

إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا

ولكن لا بوصفه المؤهل الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة، وإنما

بوصفه (ضرورة ذاتية) لوجودنا كذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا

(التصور الإسلامي) الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض ويجعلها تحت شروط خاصة عبادة لله وتحقيقاً لغاية الوجود الإنساني، لابد إذن من مؤهل آخر لقيادة

البشرية غير الإبداع المادي ولن يكون هذا المؤهل سوى (العقيدة) والمنهج الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية، تحت إشراف العقيدة والمنهج في تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم) .

ربما كان هذا الطرح المتوازن للقضية هو خير الطروحات، فلا نأخذ

الحضارة الغربية ومفرزاتها كلها كما دعا بعض الأتراك وطه حسين ولا نرفضها

كلها ونستغني عنها ولكن نأخذ بقدر ونطرح بقدر عارفين ما نحتاج وما لا نحتاج.

نحن وهذه الأهداف:

لقد مررنا بعدة مواقف من هذين الهدفين (العبادة والعمارة) يمكن تفصيلها

على الوجه التالي:

١- في الجاهلية لم نكن نعبد الله ولا نساهم في الحضارة باستثناء ما قدمه أهل

اليمن ومصر والعراق، من مساهمات معمارية.

٢- في الإسلام عبدنا الله حق العبادة ثم رحنا نساهم في بناء الحضارة حتى

حملنا الراية بجد وجدارة، وراح العالم يقتبس منا وينقل عنا وقد شكا قسس ورهبان

مر الشكوى من تعلُّم أبنائهم في الغرب لغتنا وعلومنا.

٣- بعد قرون اكتفينا بالعبادة وأهملنا الحضارة، وساهم التصوف والنكبات

السياسية وغيرها في هذا التوجه، ثم مع الأيام دخل العبادة الكثير من الدَّخَن، حتى

لا نجد مسجداً كبيراً يخلو من قبور، وشاعت زيارة القبور والتبرك بها ودعوة

أصحابها وطلب شفاعتهم، وهكذا صرنا مبتدعين في العبادة مقلدين في الحضارة،

وكان المطلوب العكس (الاتباع في العبادة والإبداع في الحضارة) .

٤- لقد أهملنا الحضارة حتى لم تعد من بين همومنا ولا من تطلعاتنا.

وضاقت دائرة العلم وراحت معاهدنا تضيق يوماً بعد يوم من العلوم المفيدة، والتي

خلت من الإبداع، تخلو من الجدة وتبعد عن الحياة.

٥- أعقب ذلك مرحلة أهملنا حتى العبادة، فصار الفرد منا بعيداً عن معانيها

(الواسعة والضيقة) ويكتفي أن يقال عنه إنه مسلم دون أن يتكلف شيئاً، وساعد على

ذلك رواج فكر (المرجئة) حتى صار جمهور الأمة منها دون أن يدعوه أحد، فكل

مسلم يدَّعي أنه عامر القلب بالإيمان، وهذا في نظره يكفي، وقد يفلسف الأمر

فيدعي طهارة القلب وعفة اللسان، وإنه أفضل من كثير ممن يمارس العبادة.

إن الأمة إذا كانت قوية تطلعت إلى الأمور الكبيرة، فإذا ضعفت تحاول فلسفة

ضعفها وهزائمها؛ لذا كانت أفكار (المرجئة) والمتصوفة أفضل فلسفة تناسب هذه

المرحلة.

٦- أخيراً وبعد الصحوة الإسلامية رجعنا للعبادة مرة ثانية، ولكن مازال

جمهور الأمة غائباً عن الاهتمام بأمر الحضارة.

فليس من الحضارة أن تركب سيارة لا تعرف عنها سوى القيادة، وليس من

الحضارة أن تأكل فواكه أمريكا وأوربا، ولكن أن تساهم في علوم العالم وصناعته،

وعلى رأس كل ذلك أن تساهم في تقديم فكر متميز، لا يكون عالة على أحد ولا

تبعاً لأحد.

يرى الكاتب مالك بن نبي - رحمه الله -[٢] أن لكل حضارة منتجاتها، فهي

متولدة عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجاتها، فشراء ما تنتجه

الحضارة الغربية من كل دول العالم لم يجعلها تكسب حضارة، فشراء المنتجات هو

كسب وتحصيل للهيكل والجسد وليس للروح، والحضارة ليست تكديس منتجات بل

هي فكر ومُثُل وقيم لابد من كسبها أو إنتاجها.

والأنكى من ذلك أن أمراض الحضارة يمكن أن تضرب أولئك الذين يتعاملون

معها في الأخذ والاقتباس، فتطحنهم أمراضها قبل أن تصلهم خيراتها. ومن لا

يصدق ذلك فما عليه الا أن يزور إفريقية ليرى مصداق ذلك في أمراض الجنس

وتعاطي الخمور والمخدرات، وعدم وصول شيء من حضارة الغرب إليهم.

٧- قد يقول البعض إنه يريد الآخرة، ويكفيه في ذلك العقيدة الصحيحة

والعبادة السليمة..

والجواب: نعم، قد يصل المسلم الجنة عن هذا الطريق، لكنه لن يكون له

نصيب في الدنيا ولا في الحضارة، أو نصيب هامشي لا قيمة له وبالمثل فإن

الإنسان في الغرب يشكل الوجه الثاني (للعملة) فهو لا يعرف الله - تعالى - وإن

عرفه فهو يفصل بينه وبين الحياة فالإنسان في الغرب جعل دينه (الحضارة) كما

جعلها كل شيء في حياته، وقد قفز بها قفزات كبيرة، ولن يستطيع أحد تجاوز ذلك، أو جحوده، ولن تفرط البشرية في منجزاتها الحضارية، وأن حضارة اليوم تطلق

قوى كالذرة قد تكون سبباً في دمار الحضارة والقضاء عليها، وما تلوث البيئة،

والخراب الذي لحق بمفاعل (تشرنوبيل) وانتشار الأمراض إلا ثمرة من ثمار هذه

الحضارة إلى جانب المنجزات الكثيرة.

٨- تبقى ألوف الملايين من البشر تدب على هذه الأرض لا تعرف الله تعالى

ولا تعبده، ولا تساهم في الحضارة من قريب أو من بعيد، وفيهم وفي أمثالهم

يصدق قول الله - تعالى -[أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ] [الأعراف: ١٧٩]

وأقبح من الكل تلك الملايين من البشر التي تعجز حتى عن إطعام نفسها، وتطالب

الآخرين أن يطعموها ويداووها ويبنوا لها المساكن.

في العالم اليوم ملايين من الكسالى ليس لديهم الاستعداد لعمل شيء، حتى

الخبز تريده مبلولاً وربما مدهوناً وعليه سكر. والأمة الإسلامية مدعوة بكل جد

وقوة لعبادة الله كما أمر، وعدم الشرك مهما صغر، وكذلك المساهمة في الحضارة

دون أن تفلسف كسلها وعجزها وتخلفها.

إن العالم يموج بالأقوياء، ومَن لا يكون قوياً بفكره واستقلاله فإنه يعيش على

الهامش، كما تعيش بعض القوارض، وستظل الدنيا محكومة بالأقوى فكراً وإنتاجاً

وتحضراً، ولن يكون فيه مكان للكسالى المتواكلين، ولن يجدوا (خبزاً مبلولاً) ولا

سكناً جاهزاً ولا قبراً جاهزاً.


(١) معالم في الطريق، ص٨، طبعة١٠.
(٢) شروط النهضة، ص٤٢.