للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

هل هذا من السياسة

إذا أردنا لحياتنا الفكرية أن تستقيم ويكون للكلمة معنى وتأثير، فلا بد من أن

نحدد المصطلحات التي يثار حولها الجدل أو تستعمل في غير معناها الحقيقي، وإن

كلمة (سياسة) من هذه المصطلحات التي يمارس باسمها كل أنواع التهريج والعسف

والخسف. وقد قرأت للمفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- تفريقاً دقيقاً بين

كلمتين: (السياسة) و (البوليتيكا) فالكلمة الأخيرة وإن كانت تعني في اللغات

الأوروبية: السياسة ولكن، بعض الناس أطلقوها على الذين يتقنون فن التهريج

والمكر والكذب على الشعوب، أو يتخبطون في الأحلام والأوهام، وأطلقها هذا

المفكر على الساسة المعاصرين له الذين يمارسون (البوليتيكا) وبظنون أنهم

يمارسون السياسة.

السياسة توجيه محدد وأهداف واضحة، وفعل الممكن، هذا عند من يعتمد

على ثقافة معينة وتجارب تاريخية، وأما عند المسلم فهي «استصلاح الخلف

بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة» [١] . فهي سياسة شرعية مبنية

على أصول ثابتة من القرآن والسنة وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-،

وسيرة الخلفاء الراشدين. وما كتبه العلماء حول هذا الشأن. ونحن عندما نفرق بين

السياسة القائمة على أصول ثابتة مع مراعاة المصلحة الشرعية وظروف الواقع

وبين ما يسمى سياسة: فلأننا ندرك حجم المأساة التي جرتها ممارسة (البوليتيكا)

على الدعوة والدعاة في العصر الحديث حيث المواقف المتناقضة، والدخول في

الصراعات التافهة بين الأحزاب. ويحق لنا أن نتسائل: هل من السياسة أن تعقد

عقداً أو تهادن عدواً ثم تنقضه في السر بحجة المصلحة وتظهر أمام الناس أنك تكيل

بمكيالين وتتناقض مع مبادئك؟ والإسلام لا يبيح هذا، جاء في سورة الأنفال:

[وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ] [الأنفال: ٥٨] .

أي إذا خفت «وتوقعت من قوم خيانة بنقض عهدك، وهذا يظهر لك بالدلائل

القوية فاقطع عليهم طريق الخيانة بأن تنبذ إليهم عهدهم أي تعلمهم بفسخه على

طريق سوي واضح لا خداع فيه ولا استخفاء ولا خيانة حتى تكون أنت وهم في

العلم سواء، والحكمة في هذا النبذ أن الإسلام لا يبيح لأهله الخيانة مطلقاً، وقد

روى البيهقي في شعب الإيمان عن ميمون بن مهران قال:» ثلاثة المسلم والكافر

فيهن سواء، من عاهدت فوفِّ بعهده مسلماً كان أو كافراً، ومن كان بينك وبينه

رحم فَصِلهْا مسلماً كان أو كافراً، ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلماً كان أو

كافراً « [٢] .

وفي معرض ولاية المؤمنين بعضهم لبعض وأن الذين لم يهاجروا إلى دار

الإسلام فليس لهم ولاية وحقوق كمن هاجر [والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن

ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا] واستثنى من ذلك إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم

لأجل دينهم فيجب على دولة الإسلام والمسلمين في دار الإسلام نصرتهم [وإن

استنصركم في الدين فعليكم النصر] ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقال:

[إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] يعني» إذا استنصركم فانصروهم إذا كانوا في دولة كافرة محاربة، أما إذا كانوا في دولة كافرة ولكنها معاهدة فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود والمواثيق « [٣] .

وجاء في صحيح مسلم عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان قال:

» ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي: حُسيل، قال: فأخذنا

كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة،

فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر فقال: «انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم» [٤] .

إلى هذا المرتقى يرتفع الإسلام ويراعي العهود والعقود، ونتساءل مرة ثانية:

هل من السياسة ما يفعله البعض من إمساك العصا من الوسط ويعتبرها سياسة دائمة

له ويظن أن هذا منتهى الكياسة أو يطلق التصريحات العائمة الغائمة فلا يدري

السامع ماذا يريد؟ وماذا يعني؟ وهل من السياسة رفع شعارات لا يؤمن بها

صاحبها، وما رفعها إلا إرضاء للعامة وغوغاء الناس أو إرضاء لفئة من الناس

يحبون العيش فترة من حياتهم في أحلام اليقظة أو تستثيرهم التصريحات العاطفية.

قد يضطر المسلم للتورية أحياناً أو يصرح تصريحات عامة في ظروف معينة، ولكن أن يكون هذا ديدنه فهذا أقرب إلى الضعف والخور يلبسهما لبوس السياسة

بزعمه. ونحن نعتقد أن الحرب خدعة وأنه قد يستعمل المكر مع الأعداء ولكن هذا

يختلف عن التصريحات الكاذبة أو نقض العهود. إن بعض أسباب ممارسة هذه

(البوليتيكا) واضحة لمن يتأمل واقع المسلمين، فهذا الذي يتحدث، ويطلق

التصريحات الفضفاضة والتي هي أكبر منه، وهذا الذي يقود ويتزعم ... هؤلاء

ليسوا من رجال الفطرة الذين يملكون الشجاعة والروح الوثابة والروح الإيمانية

الغامرة التي تدفعهم للتغيير، ذلك لأنهم نشأوا في ضعف وهزيمة، الواحد منهم لا

يملك الاستعداد للأمور العظيمة، فهو دائماً في منتصف الطريق، وهو دائماً يمسخ

المشاريع الكبيرة ليحيلها إلى (سياسة) حسب مفهومه فهو مستعد «لنصف جهد،

ولنصف اجتهاد ونصف طريق» [٥] .

وبعضهم لم يكن يتصور في يوم من الأيام أنه سيقود الجموع وتفتح له أبواب

الجاه مشرعة فلما وسد إليه الأمر، لسبب وجاهته أو فصاحته أو ... لم يكن يصدق

ذلك فرجع إلى طبيعته من الضعف واستغل هذا لتحقيق أهدافه الدنيوية التافهة.

إذا أردنا التغيير فلابد من رجال الفطرة الذين يفهمون السياسة الشرعية فهما

دقيقاً ويكفون عن ممارسة (البهلوانية) والظهور بوجهين، وإطلاق التصريحات

العاطفية ويواجهون الواقع بحذر وحزم وعزم.

* * *

«فليس للانحراف طرق مرسومة نظرياً ولكن له دروباً مظلمة يتعثر فيها

السائر في كل خطوة» .

مالك بن نبي


(١) التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون ١/٦٦٥.
(٢) رشيد رضا/تفسير المنار ١٠/٥٣.
(٣) المصدر السابق ١٠/١٠٨.
(٤) صحيح مسلم ٣/١٤١٤ كتاب الجهاد/١٧٨٧.
(٥) مالك بن نبي شروط النهضة/١١٠ ٦٦٥/١.