للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منهج أهل السنة في

النقد والحكم على الآخرين

(٣)

هشام بن إسماعيل

«تكلم الكاتب في الحلقات السابقة عن قواعد أهل السنة في النقد، وذكر منها: حسن الظن بالمسلم، والخوف من الله والعدل في وصف الآخرين. ويتابع في هذه الحلقة بقية القواعد ... »

- البيان -

القاعدة السادسة

العدل في المفاضلة بين الناس

والأصل في هذه القاعدة قول الله تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]

[الحجرات ١٣] وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل: أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» [١]

والتفضيل بين الناس يكون على وجهين:

١- تفضيل مطلق.

٢- وتفضيل مقيد.

أما التفضيل المطلق بين الناس فيكون على أساس التقوى، وقوة الإيمان -

ولنا الظاهر والله يتولى السرائر - فمن ظهر لنا أنه على تقوى أعظم من غيره كان

أحب إلينا.

وأما التفضيل المقيد: فهو بحسب قيده، فإن الناس يتفاضلون في أمور

ومواهب وقدرات، فالناس يتفاضلون في العلم، وفي الذكاء والفهم، وفي قوة

الحفظ، أو حسن الإدارة والتنظيم، وأمثال ذلك فهنا المفاضلة تكون بحسب الحاجة

إليها، وهي مفاضلة مقيدة لا علاقة لها بالأفضلية عند الله تعالى وإنما فيما يظهر

للناس.

فهذا السهروردي يقول عنه الذهبي: (كان يتوقد ذكاء، إلا أنه قليل

الدين) [٢] والأمثلة من ذلك كثير.

وقاعدة السلف - رضوان الله عليهم - أنا لا نقدم إلا من قدمه الله ورسوله،

ولا نؤخر إلا من أخره الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. كما ينبغي هنا الإشارة

إلى أن أعمال القلوب والتفاضل فيها يرفع أصحابها منازل عليا عند الله تعالى؛

(فإنك ترى الرجل الفاضل ذا الهمة العالية، والعمل الدؤوب. في نشر الإسلام،

وكثرة العبادة مع طول عمره، ثم تجد من هو أقل منه نشاطاً وعملاً، أو أقصر منه

عمراً أحب إلى الله تعالى من الأول) .

وأما من جهة كثرة العمل والعبادة، ومفاضلتها بما في القلب فقد وجد من

العباد من اشتهر بكثرة الصلاة والصيام والإنفاق في سبيل الله تعالى، وملازمة

التقوى والخوف من الله تعالى، كالحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسفيان

الثوري، والإمام أحمد وغيرهم، وهم في أفرادهم بل في مجموعتهم لا يصلون

رتبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، بل الأمة كلها لا تصل إلى رتبة

الصديق -رضي الله عنه- لأنه جمع خصائص لم تجتمع لغيره بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ولذلك ينبغي أن يكون التفضيل بين الأشخاص قائماً على العدل والإنصاف

واعتبارات الشرع لا على الهوى والتعصب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

(ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق

حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق) [٣] .

كما أن التفضيل المطلق في كل الأمور يصعب الحكم به في كثير منها، وذلك

لاشتمال كل واحد منهما على فضيلة لا توجد في الآخر فيلجأ حينئذ إلى التفضيل،

لأن التفضيل بدون التفصيل لا يستقيم.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: (الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة، أو

فاطمة أفضل، إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً، فالتفضيل بدون التفصيل لا

يستقيم، فإن أُريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل فذلك أمر لا يطلع عليه إلا

بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح، كم من عاملين

أحدهما أكثر عملاً بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة وإن أريد بالتفضيل

التفضل بالعلم، فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدت للأمة من العلم ما لم

يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل

وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل، فإنها بضعة من النبي -صلى الله عليه

وسلم- وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخوتها، وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة

نساء الأمة، وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم

وعدل، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل، ولم يوازن

بينها، فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم

بالجهل والظلم، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل

التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي؛ فمنها أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر

على الفقير الصابر أو العكس، فأجاب بما يشفي الصدور فقال: أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.. ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة

أمي المؤمنين أيهما أفضل؟ فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام،

ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين،

وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما

لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها. فتأمل هذا الجواب

الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقاً لم تخلص من المعارضة.. فعلى المتكلم في

هذا الباب:

١- أن يعرف أسباب الفضل أولاً (بتعلم العلم الشرعي من مظانه) .

٢- ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها ثانياً.

٣- ثم نسبتها إلى من قامت به - ثالثاً - كثرة وقوة.

٤- ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعاً.

فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالاً لغيره، بل كمال غيره بسواها؛

فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه، وكمال

أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا.

فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل. وتفضيل الأنواع

على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعد من الهوى

والغرض.

وههنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله: وهي أن كثيراً ممن يتكلم في

التفضيل يستشعر نسبته وتعلقه بمن يفضله ولو على بعد، ثم يأخذ في تقريظه

وتفضيله، وتكون تلك النسبة والتعلق مهيجة له على التفضيل، والمبالغة فيه،

واستقصاء محاسن المفضل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضل

عليه بالعكس ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا، وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضى بغيرها.

ومن هذا التفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ كل

منهم لمذهبه وطريقته أو شيخه، وكذلك الأنساب والقبائل والمدن والحرف

والصناعات، فإن كان الرجل ممن لا يشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة

أخرى: وهو أنه يشهد حظه ونفعه المتعلق بتلك الجهة، ويغيب عن نفع غيره

بسواها، لأن نفعه مشاهد له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضل ما كان نفعه

وحظه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه، فهذه نكت جامعة مختصرة

إذا تأملها المنصف عظم انتفاعه بها واستقام له نظره ومناظرته) [٤] ...

القاعدة السابعة

المنهج الصحيح في الحب والبغض

من المسلمين من يجتمع فيه أمران: أمر من الخير فيحب بسببه ويمدح عليه، وأمر من الشر فيذم بسببه ويبغض من جهته. وأما الحب والولاء بإطلاق فهو

للمؤمنين، والبغض والبراء بإطلاق - أيضاً - فهو للكافرين، فإن الحب والبغض

من أوثق عرى الإيمان، كما ثبت ذلك في الأثر [٥]

وإنما القاعدة في المسلم الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً أنه يحب من جهة

عمله للصالحات، ويمدح لذلك، ويبغض من جهة عمله للسيئات، ويذم لذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل

الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما

تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض

السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض

الحسنات السنية البرية، فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً

بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان [٦]

ويقول في موضع آخر: (ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم

ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر) [٧]

ويقول الذهبي -رحمه الله- عن أبي جعفر الباقر: (ولقد كان أبو جعفر إماماً

مجتهداً، تالياً لكتاب الله، كبير الشأن، لكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير [٨]

ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة

قتادة وابن شهاب، فلا نحابيه، ولا نحيف عليه، ونحبه في الله لما تجمع فيه من

صفات الكمال) [٩] .

وينبغي هنا التنبيه إلى أمر مهم، وهو: أن من الناس من يبني الحب

والبغض على مدى موافقة الآخرين له، فتجد من يحب فلاناً من الناس لأنه على

مذهبه أو طريقته في الدعوة، أو لأنه ضمن جماعته؟ ! وأمثال ذلك، وبعض

الآخرين إذا خالفوه في رأي فقهي اجتهادي، أو نظري عملي، أو ما شابه ذلك،

وهذا كله دليل على اختلال الإيمان في القلب، لأن هذا الأمر مبني على أوثق عرى

الإيمان، فإن كان محملاً في الواقع، فهو كذلك في القلب.

يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله،

وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه،

فإن فعل ذلك لطلب الرئاسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره، كان ذلك حمية لا

يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً، ثم إذا رد

عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار

لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر

على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.

وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق

معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو

رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون

الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب

الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا

حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم

يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله

ورسوله.

ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال تعالى: [وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] [الأنفال ٣٩]

فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة. [١٠]

وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله،

والعبادة لله، والاستعانة بالله ...

وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك،

ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل

يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه،

ويكون جمع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو

الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن

قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه

وطائفته، أو الرياء، ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو

لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي

يدعي الحق والسنة كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق

وباطل وسنة وبدعة؟ !

وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وكفّر بعضهم بعضاً،

وفسّق بعضهم بعضاً، ولهذا قال الله تعالى فيهم: [ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ

إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ

ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ]

الخلاصة:

من خلال ما تقدم على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في نقده وألفاظه،

ويخلص النية لله ويتجرد عن الهوى وحظوظ النفس، ولا يتكلم إلا بعلم وعدل

وإنصاف ويقدم حسن الظن بالمسلم، ويوازن بين المحاسن والمساوئ، ويجعل

لكثرة الحسنات أو قوتها اعتبارها، ويتذكر أن الشخص الواحد غالباً ما يجتمع فيه

أمران، فيحمد ويحب بسبب أحدهما، ويذم ويبغض بسبب الآخر، ثم تكون ألفاظه

مهذبة ويبتغي بذلك وجه الله تعالى.

فمن سلك هذا السبيل، فيرجى له الصواب والسداد، وعدم التبعة يوم القيامة

بما يقول، ومن أخل بشيء مما سبق. فقد وقف على حفرة من حفر النار فلينظر

موقع قدمه أن تزل وهو لا يشعر ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وعلى شباب الدعوة إلى الله أن يستفيدوا من كلام السلف الصالح عند عرض

سير أعلام النبلاء فإنهم إذا كان لا بد لهم من الحديث عرضوا ما للشخص وما عليه. وإلا كفوا عن ذلك وشغلتهم عيوبهم عن عيوب غيرهم.

والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه.


(١) أخرجه البخاري برقم (٣٣٥٣) (٤٦٨٩) ومسلم (٤/١٨٤٦) .
(٢) انظر سير أعلام النبلاء (٢١/٢٠٧) .
(٣) انظر منهاج السنة النبوية (٤/٥٤٣) .
(٤) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (٣/١٦١-١٦٤) .
(٥) انظر مسند الإمام أحمد (٤/٢٨٦) ، وحسّنه الألباني في السلسلة (١٧٢٨) .
(٦) الفتاوى (١٠ / ٣٦٦) .
(٧) الفتاوى (٥١ / ٢٩٤) .
(٨) المقصود ابن كثير الذي هو أحد القراء، وليس ابن كثير صاحب التفسير الذي هو من أقران الذهبي.
(٩) انظر سير أعلام النبلاء (٤/٤٠٢) .
(١٠) منهاج السنة النبوية ٥/٢٥٤-٢٥٦ باختصار.