للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفكك الاتحاد السوفييتي

وماذا بعد الانهيار

انتهت الحرب العالمية الثانية بانقسام العالم إلى معسكرين متعارضين سياسياً

واقتصادياً، المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي؛ والمعسكر الرأسمالي

الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ولكن طبيعة الصراع بين هذين المعسكرين

الجديدين، كانت مختلفة تماماً عن طبيعة الصراع بين المعسكرات المتناحرة في ما

قبل الحرب العالمية الثانية أو الأولى، ذلك أن ظهور نوع مختلف من الأسلحة هو

السلاح النووي؛ وتخوف المعسكرين ورعبهما من خطر نشوب حرب نووية، كان

عاملاً نفسياً قوياً أجبر الفريقين على فتتح أبواب الحوار لتسوية المشاكل المستعصية. وبذلك انتقلت أشكال الصراع الرئيسي من ميادين القتال إلى معامل التجارب

العلمية، ومحطات أبحاث وصناعة سفن فضاء، فكان صراعاً من نوع آخر.

التكنولوجيا الحديثة سلاحه وأجهزة المخابرات جنده ومنفذه، فكانت الحرب الباردة.

في نهاية القرن التاسع عشر، ظهر على الساحة الأيديولوجية كتابا «رأس

المال» «والبيان الشيوعي» اللذان كتبا من قبل كارل ماركس وإنجلز في لندن،

فكانا بمثابة أنظمة وشرائع ارتكزت على أساسها النظرية الشيوعية. قام الحزب

الشيوعي ليستولي على سلطة أكبر دول العالم من حيث المساحة وثالثها من حيث

السكان وذلك عقب ثورة ١٧ أكتوبر ١٩١٧ الروسية. لقد سيطر هذا الحزب على

روسيا ومن ثم الاتحاد السوفييتي وحكمها فترة ٧٤ سنة، تعاقب على رأس الحكم

فيها، وعلى مدى تلك الفترة، كل من لينين وستالين ومالينكوف وخروتشوف

وبريجينيف وأندروبوف وتشرنينكو وآخرهم غورباتشوف ... وخلال حكم هؤلاء

كلهم، جرى ذبح ألوف من أهل الحكم الطامعين والطامحين، كما جرى ذبح خمسة

ملايين في حرب أهلية، ثم ذبح حوالي عشرة ملايين في عملية تصفيات ستالينية

داخلية في الثلاثينات، ثم ذبح ضعف هذا العدد في الحرب العالمية الثانية، ثم ذبح

الآلاف في حرب أفغانستان، فكانت حصيلة حكم هذا الحزب لتلك البلاد، انسحاق

حوالي الأربعين مليون سوفيتي في موت غير طبيعي وفي تدابير استبدادية تعسفية

تحولت معها الكنائس والمساجد زرائب للخنازير، والأملاك الخاصة إلى مشاعات

يتصرف بها أفراد الحزب الحاكم، ناهيك عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية

المخزية التي وصلت إليها البلاد.

ونظرا لضعف النظرية إلى اتبعها وقصر نظرها، ونتيجة لهشاشة السياسة

العملية إلى انتهجها، بالإضافة إلى الكفر والاستعلاء والاستكبار والقتل والظلم

والقهر بحق شعبه وغيره، اعترف الاتحاد السوفييتي، ومع بداية الثمانينات،

بعجزه، وذلك بعد أن ظهرت، وبشكل واضح، علامات ضعفه وفشله في الحرب

الباردة مع المعسكر الرأسمالي الغربي.

لقد بدأ العد العكسي عند المعسكر الشرقي وخاصة في الاتحاد السوفيتي حيث

بدأت الأمور تتفاقم والحالة الاجتماعية والاقتصادية من سيئ إلى أسوأ، حتى جاء

غورباتشوف وفي منتصف العقد الماضي ليقدم عرضه «البيريسترويكا» أو

«إعادة البناء» ، والذي شكل ثورة في المواقف والأفكار والممارسات، ودعا إلى تغيير جذري في السياسة الداخلية والخارجية على السواء؛ يقول غورباتشوف في مقدمة كتابه «البيريسترويكا» :

«نحن نعرف ونأخذ في الاعتبار الدور الكبير الذي تلعبه الولايات المتحدة

في العالم الحديث، ونقدر إسهام الأمريكيين في الحضارة العالمية، ونحسب حساباً

للمصالح المشروعة للولايات المتحدة، وندرك أنه بدون هذا البلد يستحيل إزالة

خطر الكارثة النووية، وضمان سلم وطيد. وليست لدينا أية نوايا سيئة تجاه الشعب

الأمريكي. ونحن راغبون ومستعدون للتعاون في كافة المجالات. لكننا نريد أن

نتعاون على أساس المساواة، والتفاهم المتبادل والمعاملة بالمثل» .

لقد جاءت «البيريسترويكا» في الاتحاد السوفييتي لتنهي مرحلة حرب باردة

خارجية دامت ٤٠ سنة وتفتح، في الوقت نفسه، مرحلة حرب باردة داخلية،

دارت لمدة ستة أعوام بين تيارين متناحرين أفرزتهما تلك «البيريسترويكا» : تيار

المحافظين الماركسيين اللينينيين، وتيار الليبراليين الديموقراطيين. كان المعسكر

الغربي ما يزال مستمراً في تركيز مواقعه وتشديد الخناق على المعسكر الشرقي.

فلقد عملت أوروبا والولايات المتحدة واليابان بكل قوتها من أجل تجهيز المسرح

العالمي لانتهاء الحرب الباردة، ليس من خلال تنازلات، وإنما من خلال زيادة

الضغوط لتصفية المعسكر الشرقي بمقوماته المختلفة، وحصار الاتحاد السوفييتي

ودفعه إلى داخل حدوده، وتقليص نفوذه الدولي ليصل إلى أدنى حد ممكن.

ففي سنة ١٩٨٤، كانت اللجنة الثلاثية - وهي لجنة غير رسمية تضم ممثلين

عن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان - قد طالبت الدول الأعضاء -

وخاصة دول أوروبا الغربية - ببذل جهود من أجل تكثيف روابطها الاقتصادية

والعلمية والثقافية مع دول شرقي أوروبا في محاولة لإنهاء تقسيم القارة الذي طرأ

منذ عام ١٩٤٥، وذلك تحت عنوان «الديموقراطية لا بد أن تنتصر» ،

وشعارات حقوق الإنسان، والحرية الديموقراطية، وإصلاح النظام الاقتصادي،

إضافة إلى موضوع مواجهة الإرهاب ...

لقد نجحت دول التحالف الثلاثي على مدار السنوات الست، في اتخاذ

خطوات أدت فعلياً إلى تقليص النفوذ السوفيتي في العالم الثالث وقلب النظام

السياسي البولندي سلمياً، ثم تداعي نظم أوروبا الشرقية بسرعة لا تصدق وسقوط

رؤوسها، وفاق غورباتشوف والاتحاد السوفييتي، الواحد تلو الآخر. وشهدت

برلين قمة الأحداث المثيرة في شهر نوفمبر ١٩٨٩، عندما سقط جدار برلين وتدفق

المواطنون الألمان الشرقيين إلى الغرب، مما أدى فعلياً إلى إنهاء ارتباط الاتحاد

السوفييتي بدول شرق ووسط أوروبا، وأصبح السوفيات في حاجة للغرب أكثر من

أي وقت مضى؛ فلقد صرح الرئيس البولندي ليخ فاليسا، وخلال زيارته إلى

بريطانيا في ٢٥/٤/١٩٩١، أنه ينبغي على الاتحاد السوفييتي السماح لشعوبه

بتشكيل اتحاد جديد قائم على أساس الديموقراطية، وحذر في خطاب ألقاه أمام

مؤتمر للسياسيين الأوروبيين الشباب من أن الغرب قد يواجه هجرة جماعية من

أوروبا الشرقية إلا إذا ساعد البلدان الشيوعية على إنعاش اقتصادياتها ...

لقد سقطت إذن أوروبا الشرقية في أيدي المعسكر الغربي الذي تمكن معها

بدفع المعسكر الشرقي إلى داخل حدوده وتقليص نفوذه، فوقعت تائهة تنتظر العون

والمدد من جاراتها الغربيات، فما كان من تلك الأخيرة، ولكي تضمن انسلاخ تلك

الدول عن معسكرها السابق، إلا أن ربطت تلك المساعدات بالانتقال السريع

المباشر من اقتصاد «رأسمالية الدولة» حيث يتحكم القطاع العام بكل شيء إلى دولة الرأسمالية « ...

وفي مطلع الأسبوع الثالث من شهر نيسان ١٩٩١، افتتح في لندن البنك

الأوروبي للتعمير والتنمية. ولقد أعلن هذا البنك صراحة أن قروضه مشروطة

سياسياً، أي ربط التمويل بأهداف سياسية صرفة، وهذا أمر غير متاح من خلال

قوانين المؤسسات الدولية الأخرى مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي على

الرغم من الخضوع المتزايد لهذه المؤسسات لاعتبارات سياسية. فلقد حدد هذه البنك

هدفه الأساسي بمساعدة دول أوروبا الشرقية على الانتقال من الاشتراكية إلى

الرأسمالية، وسيتضمن ذلك بصورة ملموسة مساعدة الدول الخارجة من النظام

الشيوعي على تصفية القطاع العام وتكوين البنى التحتية لنظام الاقتصاد الحر.

في ٢٤/٤/١٩٩١، وخلال اجتماع عقد في براغ وضم عشرين وزير عمل

أوروبي، نقلت وكالة الأنباء التشيكوسلوفاكية عن وزير العمال السوفيتي فاليري

بولمان توقعه أن يُجبر الوضع الاقتصادي حوالي ثمانية ملايين عامل على البحث

عن عمل في الخارج خلال السنوات الثلاث المقبلة. ولكن الرد الغربي كان صارماً

وصريحاً: مزيداً من التنازلات، الانتقال السريع، وإليكم الدعم ...

وهكذا، وتنفيذاً لشروط الغرب للحصول على مساعداته، وتحت شعار

تكريس الديموقراطية في الاتحاد السوفييتي وتحسين أحواله الاقتصادية، قام

الكرملين بقيادة غورباتشوف بالانسحاب من كل مواقعه الاستراتيجية في العالم

وأهمها الشرق الأوسط، وبانسحابه، تفرد الغرب بالقرار هناك، فتم تدمير قوة

الأمة والهيمنة على مقدراتها وثرواتها، وتنفذ حالياً التسوية السلمية للصراع العربي

الإسرائيلي بالشروط الإسرائيلية الكاملة، وتتم تصفية القضية الفلسطينية، ولكي

يبيض سجله لدى السلطات الأمريكية في مجال حقوق الإنسان، فقد سمح بهجرة

يهود الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل وعددهم بالملايين.

هذا على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الداخلي للاتحاد السوفياتي،

فالحرب الباردة كانت مستمرة، تهدأ تارة وتشتد تارة، مرت فيها البلاد في ظروف

صعبة جداً وصلت بها أحيانا إلى حافة الهاوية، ثم تخطَّتها حتى كان الانقلاب فجر

١٩/٨/١٩٩١. فكيف دارت أحداث تلك الحرب الداخلية الباردة؟ ما هي الأحداث

التي سبقت الانقلاب؟ لماذا وقع الانقلاب وما هي أهدافه ونتائجه؟ ..

» يتبع «