للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بيان من بعض علماء الأزهر

عن حرمة معاملات البنوك

د. محمد المختار المهدي

هذا بيان أصدره بعض علماء الأزهر ممن يدّرسون في جامعة أم القرى في

مكة المكرمة رداً على مفتي مصر في موقفه من بعض المعاملات الربوية.

- البيان -

الحمد لله الحكيم في شرعه، الحفيظ على دنياه، والصلاة والسلام على سيدنا

محمد المبلغ عن ربه، المبين لحكمه، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه.

أما بعد:

فإن هناك حقيقة غائبة عن المجتمعات الإسلامية الآن، ولها خطورتها- في

تعمية السبل أمام نهضتها من كبوتها، وكنا نظنها واضحة لدى النخبة المثقفة فيها،

وخاصة من أبناء الأزهر، حتى فوجئنا وفوجئ الفكر الإسلامي الحديث كله بما

صدر عن الشيخ محمد الطنطاوي مفتي مصر بشأن شهادات الاستثمار مرة، وفوائد

البنوك ومعاملاتها مرة أخرى، ثم اختلاط الفتيات بالشبان في الجامعات

والمعسكرات أخيراً.. هذه الحقيقة الغائبة تتلخص في أن الإسلام لا يمكن تطويعه

لأوضاع نبتت في غير أرضه؛ إذ هو القيم المهين على ما سواه من أديان وأنظمة

وقوانين.

إنه قد جاء ليغير ما عليه المجتمعات من أنظمة وضعية فاسدة اعتماداً على

بديهة إيمانية هي أن الله يعلم المصلح من المفسد، وأن كل ما يخالف تشريعه فهو

هوى يفسد السموات والأرض، قال تعالى:

[ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم

بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ] .

وأن الإيمان منفي عمن لا يكون هواه تبعاً لما جاء به الشرع الحنيف.

وقد نتج عن غياب هذه الحقيقة ظاهرة غريبة تحاول أن تفرض الواقع

المستجلب من بيئة لا تؤمن بضوابط الوحي الخاتم على ما جاء به الإسلام من

تشريعات، هادفة لإخضاع الإسلام للواقع مهما كان هذا الواقع، مستخدمة أسلوب

الادعاء بأن باب الاجتهاد مفتوح لمن هب ودب.

وقد تعلمنا من وقائع التاريخ الحديث - منذ قدر للاستعمار أن يتحكم في بلاد

المسلمين، وينحي عنهم تشريعهم - أن أعداء الدعوة الإسلامية يحاولون بشتى

الطرق - وبإصرار غريب متواصل - أن يغيبوا عن المجتمع الإسلامي نموذج

الحياة الفاضل العادل الذي تكفل سابقاً بتقدمه ومجده، وأن يعملوا على إبراز نموذج

الحياة الغربية على أنه المثل الذي لا بد من السير خلفه مهما كان فيه من عورات،

ولذا نراهم يثيرون بين الحين والآخر قضايا انتهى الفكر الإسلامي المستنير من

قتلها بحثاً، ولكنهم يستغلون في ذلك بعض المثقفين على غير وعي منهم، وإننا

لنشهد لهم بالمهارة في اختيار الضحايا. وهذه القضايا هي التي بثها الاستعمار

الفكري في أوائل هذا القرن، إننا مازلنا على ذكر من إثارة الشكوك حول صلاحية

التطبيق الإسلامي في العصر الحاضر، وما كتب فيها من المخدوعين المغرر بهم.

وما أثير في الستينات من تطويع بعض تشريعات الإسلام للفكر الاشتراكي، حتى

ظهر من يقول: إن الإسلام هو الاشتراكية، وما أثير من التشكيك في موضوع

انطباق وصف الربا على فوائد البنوك وصناديق توفير البريد حتى يقال حينئذ: إن

الإسلام هو الرأسمالية! والإسلام إسلام قبل ظهور هذه المذاهب الوضعية الفاسدة.

والآن تطرح معظم هذه القضايا بنفس الحجج التي أثيرت بها من قبل ولكن بأسلوب

آخر ... والذي يهمنا منها الآن ما خرج علينا به الشيخ المفتي بما لم يكن في

الحسبان، وبما كنا ننأى به عن الوقوع في هذه الخطيئة.. إن الجديد في كلام

الشيخ أن خياله قد سرح وجنح وتصور - أو صور له - إن البنوك قبل أن تنشأ في

المجتمع الإسلامي جمع ولي الأمر علماء الأمة وخبراءها واستشارهم في أنظمتها

ولما وجد أن ضمائر الناس قد فسدت قرر إلغاء شرط المضاربة، وفرض على

البنوك أن تحدد الفائدة مقدماً لأن ذلك هو الذي يصلح للمجتمع! !

ونسأل الشيخ: هل نظام البنوك في مصر يختلف عن بقية بنوك العالم؟ !

وهل جرى لكل بنوك العالم مثل هذه المراجعة والتقويم من ولاة الأمر وهم كفار؟ !

ثم متى كان هذا اللقاء بين ولي الأمر وعلماء الإسلام حين استشارهم في ذلك كما

تدعي؟ ومن كان ولي الأمر حين أنشئ بنك باركليز مثلاً في مصر؟ ! وهل كان

المجتمع الإسلامي وقت إنشاء البنوك فيه يملك قراره؟ ! ألم يكن مذلاً مقهوراً

منبهراً بالحضارة الغربية، والقوة الغازية الغالبة؟

ومع ذلك ففي كلام المفتي مغالطات لا تخفى على ذي بصيرة، فبالرغم من

أن الشيخ يعيب على من يتوقع الخسارة في عملية المضاربة بأنه متشائم نجده هنا

يفترض في المجتمع فساد الضمائر ويحسب نفسه بذلك متفائلاً! ثم إنه يحكم

المصلحة في النصوص بما يؤدي إلى تعطيل جميع النصوص من وجهة نظر

المصالح المعتمدة على الأهواء إن في الخمر مثلاً مصلحة ومنفعة، بل فيها منافع

للناس كما صرح بذلك القرآن الكريم: فيها مصلحة للصانع وللبائع، بل وللمتعاطي

من وجهة نظره، فهل نلغي نص تحريم الخمر من أجل هذه المنافع؟ ! ! ! وهكذا

في الزنا وفي غيره مما فصل الشرع فيه بحكم يتعارض مع بعض الأهواء

والمصالح! !

ولقد توقعنا أن تنشر جريدة الأهرام التي أعلن فيها المفتي في عدد ٢٩/٥/

١٩٩١ حل المعاملات البنكية ما جاءها من ردود الغيورين على الدين من العلماء

الأثبات؛ إذ هي التي أعلنت فتح المجال للمناقشة، ولكنها سكتت وأغلقت الباب

الذي فتحته على مصراعيه للمفتي فقط ولم تسمح أجهزة الأعلام الرسمية الأخرى

بنشر ما يخالف وجهة نظر المفتي لأنها ملتزمة برأيه فقط، ولو كان الرأي المخالف

صادراً من الإمام الأكبر ومن مجمع البحوث الإسلامية ومن جامعة الأزهر لدرجة

أن نائب رئيس تحرير الأهرام الأستاذ رجب البنا يعلن بعد كلام المفتي تأييده لرأيه

ملقياً تهمة العمل لحساب البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال الإسلامية على

كل من يعارض المفتي! ! وهذا لون من ألوان الإرهاب الفكري الذي تمارسه

أجهزة الإعلام ضد علماء الإسلام ودعاته.

على كلٌ فالذي يهمنا هو المسلم الذي يريد أن يرضي ربه، ويريح ضميره،

ويعرف الشرع على حقيقته، كما يهمنا أن نبلغ عن الله، ونحذر من التمادي في

معاصيه، ومن التعرض لحربه المعلنة حتى ننجو من مساءلة الله وعذابه, فالساكت

عن الحق شيطان أخرس والنصيحة واجبة على كل مسلم لله ولرسوله ولأئمة

المسلمين وعامتهم. من هنا نقدم هذا البيان للأمة من أقدس بقعة من الأرض من

جوار بيت الله العتيق، ومن علماء الأزهر الذين استنفرهم الله -عز وجل- ليتفقهوا

في دينه ولينذروا قومهم لعلهم يحذرون.

إن شريعة الإسلام محكمة خالدة، لا يعتريها تحريف ولا تبديل؛ إذ أحاطها

الله بحفظه وقدرته، ورد عنها كيد المحرفين الذين يريدون أن يخضعوها لأهوائهم،

وسخر لها من العلماء في كل جيل من ينفي عنها مغالاة الغالين وانحراف المضلين،

وكم من شبهة أثارها أعداء الله على مر الأجيال فوجدت من حراس الشريعة سهاماً

نافذة قضت عليها، وكم من رأي شاذ خارج عن إجماع الأمة قد فنده الراسخون في

العلم، وكم من تهمة ألقيت على تشريعات الإسلام فردها الله في نحور الكائدين.

ومن البديهيات التي لا تقبل المناقشة أن فكرة البنوك مبنية أساساً على

المعاملات الربوية وأن وظيفة البنك -كما يحددها أهل الاختصاص الأمناء - ما هي

إلا التعامل في الديون أو القروض أو الائتمان، ويشمل هذا التعامل شقين: الأول:

الاتجار في الديون والقروض والائتمان. والثاني: خلق الديون والقروض ...

والائتمان.

والدين والائتمان هما وجها القرض، فمن وجهة نظر المدين يسمى ديناً،

ومن وجهة نظر الدائن يسمى ائتماناً، ولذا يمكننا القول أن البنوك تتاجر في النقود، ولا تتاجر في النقود، وأنها امتداد السلوك اليهودي الذي كان مشهوراً لدى العرب

وغيرهم، حيث كان يضع اليهودي نقوده على المنضدة ليقرض المحتاج بفائدة

تزداد بمضي المدة التي تبقى فيها النقود عند من يقترضها، وقد بقي اسم البنك دالاً

على هذه الصورة المقيتة، ومن البدهيات كذلك أن البنوك التجارية وهي أكثر

البنوك العاملة في مصر وغيرها ما هي إلا واسطة بين المودع والمقترض: فهي

تأخذ الوديعة من صاحبها وتحدد له نسبة مئوية سنوية معلومة من قيمة هذه الوديعة، ثم تعطي هذه الوديعة لمن يريد استثمارها أو لمن هو محتاج إليها في ضروراته

بنسبة مئوية سنوية أعلى والفرق بين النسبتين هو الذي يعيش عليه العاملون في

البنوك، وإذا شارك البنك في تأسيس شركة أو مصنع فإنه يشتري أسهماً محددة

بنسبة ضئيلة يحددها القانون ويفرض على البنك أن يكون الجزء الأكبر من أمواله

قابلاً للسيولة السريعة.

وعلى هذا يكون من الظلم والتعسف والافتراء افتراض أو تخيل أن البنك

يعمل بنظام المضاربة الشرعي، فنظام البنوك في العالم متحد، والمضاربة

الشرعية كما وضحتها كل أجيال الأمة المسلمة من العلماء والأئمة الأربعة، وكما

اعترف بها فضيلة المفتي في مقالاته الأربع، وكما يعبر عنها ابن رشد في كتابه

بداية المجتهد [١] : (أجمعوا على صفتها أن يعطي الرجل الرجل المال على أن

يتجر فيه على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال أيّ جزء كان مما يتفقان عليه: ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً) وهذا الصورة المجمع عليها تشير إلى شرطين أساسيين في هذا العقد:

أولهما: أن الذي يأخذ المال يأخذه للاستثمار في التجارة أو الصناعة أو أي

عمل مشروع.

ثانيهما: أن الجزء المعلوم المتفق عليه من الربح لا من رأس المال، وأن

هذا الجزء شائع كالثلث والربع.

وهذان الشرطان لم يخترعهما الفقهاء برأيهم أو اجتهادهم كما يدعي الشيخ

المفتي، بل إن المعتمد الأساسي لهما هو النص، وهو نص عملي لا يحتاج إلى

تأويل، والنص ممن أرسله الله -عز وجل- ليبين للناس ما نزل إليهم. وليس

صحيحاً ما قرره فضيلة المفتي بأن هذا الشرط - وهو شيوع نصيب كل من

المتعاقدين في الربح - ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، وكان أولى

بالشيخ وهو أستاذ سابق للكتاب والسنة في أعرق جامعة إسلامية أن يتريث ويحتاط

ويبحث ولا يظهر عدم معرفته بالسنة، إذ هل يستطيع أحد أن ينكر أن رسول

الله - صلى الله عليه وسلم- قد تعاقد مع أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من تمر وزرع؟ .

بل هل ينكر أحد ما رواه البخاري ومسلم بأكثر من رواية من النهي النبوي

عن استئجار الأرض بتحديد ناحية معينة منها يكون نتاجها لصاحب الأرض؟

لقد أخرجا في صحيحيهما عن رافع بن خديج قال: (كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه

فنهانا عن ذلك) [٢] وروى مثل ذلك أيضاً أبو داود والنسائي والإمام أحمد بألفاظ

متقاربة.. وخضع الأئمة الأربعة والظاهرية لهذه النصوص النبوية المحكمة التي

بينت الحكم والحكمة معاً حيث نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك لما

يترتب عليه من الظلم وعدم العدل بين الشريكين، وأكدوا هذا الشرط في المزارعة

والمساقاة والمضاربة وسائر الشركات، واعتبروه شرطاً شرعياً لا تجوز مخالفته،

وليس شرطاً جعلياً للمتعاقدين حرية فيه، وأجمعوا عليه، وما كان لهم أن يفعلوا

سوى ذلك وهم القائلون: لا اجتهاد مع النص.

يقول الدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج - رحمه الله - رداً على مثل هذه

الفتوى وكأنه يرد الآن على المفتي الحالي: [٣]

(وإذا كان اشتراط جزء معين من الخارج لصاحب الأرض في المزارعة قد

حظرته الشريعة، ونهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما فيه من الظلم

والغبن بأحد الشريكين المتعاقدين على الاشتراك في الربح والخسارة، فلماذا يرد في

وجه الأئمة الفقهاء قولهم بلزوم خلو العقد من ذلك الاشتراط الجائر الظالم، وهم لم

يقولوه إلا تطبيقاً للسنة الصحيحة مدعماً بما تدل عليه نصوصها الصريحة؟ !

وكيف يسوغ لمطلع على نصوص الشريعة ومواردها أن يقول في اشتراط

ربح محدد لرب المال في المضاربة أنه جائز وغير مخالف للكتاب والسنة وإن كان

فيه مخالفة لأقوال الفقهاء؟ (يلاحظ أن هذا هو ما قاله المفتي حرفياً) أو لا يكفي

النص على حظر ذلك الاشتراط ومنعه في المزارعة ونعلم أنه محظور وممنوع في

المضاربة والمساقاة وغيرهما من فروع الشركات؟ وهل من حسن الظن بالشريعة

العادلة أن يقال: إنها تمنع من الظلم والجور في شركة المزارعة وتبيح ذلك في

شركة القراض؟ !)

وقد ساق الشيخ عبد الرحمن تاج -رحمه الله- مع هذه النصوص القاطعة

إجماع علماء الأمة الذين لا يجتمعون على باطل فيما قاله ابن المنذر: (أجمع كل

من نحفظ من أهل العلم على إبطال القراض (المضاربة) إذا اشترط أحدهما

أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة) [٤] .

وعلل هذا الإجماع الإمام ابن رشد بأنه إذا اشترطت دراهم معلومة فمن

المحتمل ألا يربح غيرها فيستضر العامل، ومن المحتمل كذلك ألا يربح مطلقاً

فيأخذ من رأس المال ومن المحتمل كذلك أن يربح كثيراً فيستضر من شرطت له

الدراهم. ثم إن حصة العامل لما تعذر كونها معلومة المقدار كان لا بد أن تكون

معلومة الأجزاء، فإذا جهلت الأجزاء، فسدت.

وإذا كان المفتي يعترض على البنوك الإسلامية الحالية في أنها لا تحدد للمودع

نصيبه من الربح بنسبة النصف أو الربع ... فإننا نقول إن هذه البنوك ليست حجة

على الشرع وإذا كانت تفعل ذلك فنحن أيضاً معه، فلسنا بحمد الله ممن يحابي في

دين الله أحداً، وليست لنا مصالح خاصة تمنعنا من قول الحق والجهر به كما يدعي

علينا الأهرام ...

وهذا الإجماع من علماء الأمة كما يستند إلى السنة في نصوصها الصريحة

السابقة فإنه يعتمد أيضاً على القواعد الفقهية الثابتة بالتواتر، ذلك أن جعل الربح في

المضاربة محدداً كعشرة من مائة يتعارض مع القاعدة الفقهية: (الضرر يزال) تلك ...

القاعدة المأخوذة من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الصحيح عن أبي

سعيد الخدري: (لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه) وبذلك يتبين بما لا مجال للشك فيه أن شرط كون الربح في المضاربة جزءاً مشاعاً معلوماً من واحد صحيح لكل من المتعاقدين قد ثبتت بالسنة والإجماع والقياس والقواعد الفقهية، وإن القول بغير هذا افتيات على الشرع ومخالفة للسنة الصحيحة وإجماع الأمة ...

أما الشبهة التي أثارها الشيخ المفتي في أنه لو سلم جدلاً بهذا الشرط فإن

الفقهاء قرروا في المضاربة الفاسدة أن للعامل أجر مثله؛ وعلى هذا يكون ما أخذه

البنك من الأرباح بعد خصم النسب المئوية التي يأخذها المودع هو أجرة المثل مهما

بلغت.. فإننا هنا لا بد أن نتوقف لنقول للشيخ: إن فقدان هذا الشرط لا يجعل

المضاربة فاسدة، ولكنها باطلة كما نص عليه العلماء الفاقهون فيما سبق. ثم لو

سلمنا جدلاً - كما هو أسلوبك - بأنها فاسدة فهل يحل للمسلم أن يقدم على عقد

فاسد؟ ! إن الإجماع أيها الشيخ منعقد على أن الإقدام على العقود الفاسدة حرام، وإذا وقع وجب فسخه وإلا كان هذا العقد بعد الوقوع باطلاً، يقول ابن رشد:

(واتفقوا على أن القراض الفاسد يجب فسخه ورد المال لصاحبه) . هكذا هم يتفقون على ألا يستمر الفساد لأن استمراره إصرار على مخالفة النهي النبوي، ولكن فضيلة المفتي يريد أن يستمر الفساد في هذه المعاملة البنكية التي يدعي أنها مضاربة فاسدة! !

ثم أليس في هذا الادعاء ليّ لأعناق الواقع الملموس؟ ! فمن الذي يأخذ من

الصورة التي عليها تعامل البنوك أجر المثل هل هو البنك أم المودع؟ إن الذي حدد

له مبلغه هو المودع فهل نجعل صاحب المال أجيراً عند البنك وهذا أجر مثله أم

العكس هو الصحيح على رأي فضيلته؟ .

إنها معاملة ربوية واضحة مهما حاول الشيخ بخيالاته وأوهامه التي ساعده

عليها المغرضون، وهي معاملة متحدة في كل بنوك الدنيا لم يؤخذ فيها رأي الإسلام.

الشبهة الثانية التي أثارها المفتي مبنية على فساد الذمم والضمائر لدى العاملين

في البنوك فلهم أن يدعوا أن المضاربة خسرت أو ربحت قليلاً فيضيع على

المستثمر ربحه بل قد يضيع ماله كله، وبناء على ذلك كان لولي الأمر أن يعرض

على البنوك تحديد الربح مقدماً وكان له أيضاً أن يحمل البنك ضمان ما عنده من

مال إذا تلف.

وقد أشرنا سابقاً إلى هذه التهمة التي لسنا معه في وصم جميع الناس بفساد

الذمم والضمائر فما زال الخير في المسلمين بحمد الله وسيظل ولا أدل على ذلك من

إقبالهم واندفاعهم نحو الحلال ونفرتهم من التعامل بالربا، والإسلام يفترض دائماً في

أبنائه الصلاح إلى أن يثبت عكس ذلك، وبناءً على هذه الثقة يقول الفقهاء:

(والعامل أمين فيما تحت يده، وإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن؛

لأنه ناب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع) [٥] .

والأئمة الأربعة والظاهرية قد اتفقوا على ذلك، بل صرح صاحب المغني بأنه:

(متى شرط على المضارب ضمان المال أو سهماً من الوضيعة فالشرط باطل ولا

نعلم فيه خلافاً) [٦] ...

واستدلال المفتي بمسألة تضمين الإمام علّي للصناع للمحافظة على أموال

الناس قياس أقل ما يقال فيه أنه فاسد، لأنه:

أولاً: لا قياس مع النص والإجماع الذي يقول عنه ابن قدامة إنه لا يعلم فيه

خلافاً، ثانياً: لأن مسألة تضمين الصناع - وهي الأصل المقيس عليه - مختلف

فيها عند الفقهاء، بل إن إسنادها إلى علّي فيه مقال، ومعلوم أنه لا يجوز القياس

على حكم مختلف فيه.

أما أنه حكم مختلف فيه فيقول الصنعاني في سبل السلام [٧] : (اختلف أهل

العلم في تضمين الصناع فقالت طائفة هم ضامنون إلا أن يجيء شيء غالب وهذا

قول مالك. ثم قال: وروى عن علي أنه ضمن الأجير وفي إسناده مقال، ثم قال:

وقالت طائفة أخرى: لا ضمان على الصناع، وروي هذا القول عن ابن سيرين

وطاووس، ثم قال: والصحيح من مذهب الشافعي أنه لا ضمان على الأجير إلا ما

تجنيه يده) وما قيل في مسألة تضمين الصناع يقال في استدلاله بمسألة التسعير،

ذلك أن فضيلته يقول: (إن الأصل في التسعير ألا يجوز لرفض رسول الله إياه،

ومع ذلك أجاز كثير من الفقهاء لولي الأمر تسعير السلع إذا غالى التجار أو

احتكروا) . ذلك أن الخلاف واضح من هذه المسألة بين الفقهاء، وقد وضحه

الشوكاني والصنعاني، وما دام هنالك خلاف في مسألة فلا يجوز القياس عليها، كما هو مقرر في علم الأصول.

ومما يستلفت النظر في مقال الشيخ المفتي أن في أسلوبه وأفكاره جنوحاً

وتعمية:

١- يقول: ليست مسألة تحديد الربح وعدمه من العقائد والعبادات التي لا

يجوز التغيير فيها، وإنما هي من المعاملات الاقتصادية التي تتوقف على تراضي

الطرفين. ونحن نقول: إن التفرقة في تعاليم الإسلام بين العقيدة والعبادة والمعاملة

مرفوضة من الأساس، فكل نص ورد في الكتاب والسنة وجب على كل مسلم أن

يلتزم به مهما كان مجاله، وفي هذا الالتزام معنى العبودية لله تعالى، فإقامة الحد

على السارق والزاني عبادة، واعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث عبادة،

والتزام العدل في المعاملات عبادة، وما قسم الفقهاء أحكام الدين إلى عقائد وأخلاق

وعبادات ومعاملات إلا ليسهل عل الدارس استيعابها، والا فهل لأي مسلم أن يغير

في غير العقائد والعبادات؟ أليست هذه العبارة تحمل في طياتها تفريغ الشريعة من

مضمونها في حكم حركة الحياة الاجتماعية والاقتصادية بحجة أنها ليست من العقائد

ولا العبادات؟ ! ! ثم إن مسألة التراضي بين الطرفين ليست هي الأساس في أحكام

الشرع، فهل إذا تراضى رجل وامرأة على الزنا يحول الزنا إلى مباح؟ ! إن

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الصحيح عن تلقي الركبان، ومعنى هذا أن

أهل الحضر كانوا يتلقون أصحاب السلع قبل أن يصلوا إلى السوق؛ فيشترون منهم

بالتراضي وبسعر يجهله صاحب السلعة، فهل كان التراضي هنا مبيحاً للمعاملة أم

نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه بالرغم من التراضي؟ !

٢- يقول الشيخ: إن شريعة الإسلام تقوم على رعاية المصالح في كل زمان

ومكان، وإن بدا أنها تصطدم ببعض النصوص.

ونقول: نحن لا نشك في أن الشريعة تكفلت بمصالح الناس، ولكننا لا نشك

أيضاً أن في شرع الله نفسه ما يفي بكل مصالح البشر دون تغيير أو تحريف أو

تبديل، وما لم يرد في شرع الله فهو هوى ومصلحة فاسدة وهذا ما قرره الإمام

الشافعي -رضي الله عنه-.

٣- يقول: معلوم أن البنك لم يحدد الربح إلا بعد دراسة مستفيضة لأحوال

الأسواق العالمية والأوضاع الاقتصادية وهو يتم بتوجيهات من البنك المركزي.

ونقول: هل يمكن للبشر أن يحيطوا بالغيب فيتوقعون الكوارث والنكبات

بحجمها المقدر في علم الله؟ هل كان الاقتصاديون يتوقعون حرب الخليج وآثارها؟ . هل كانت الصين واليابان والفلبين وبنغلادش تتوقع البراكين والأعاصير التي

اجتاحتها مؤخراً؟ ثم كيف تفلس البنوك العالمية مع دراستها لجدوى مشاريعها، إن

قصة بنك الاعتماد والتجارة الدولي ما زالت قيد البحث حتى الآن. وقصة بنك

جمال ترست ماثلة للأذهان ... ! !

٤- يقول: بمقتضى معرفة صاحب المال لحقه معرفة خالية من الجهالة ينظم

أمور حياته.

ونقول: وهل يعتمد المسلم على ما سيأتيه من البنك ليعيش به ويترك العمل؟

وهل يستطيع المسلم عن طريق البنك أو غيره أن يحدد رزقه وينظم أمور حياته؟

هل هذا يتفق مع العقيدة؟

٥- يقول: إن حدثت الخسارة لأسباب خارجة عن إرادة صاحب العمل

سيتحمل صاحب المال عند الاقتضاء ما يجب عليه منها، والذي يقرر ذلك هم

رجال القضاء.

ونقول: إن العقود في الفقه الإسلامي بنيت على أسس متينة تحول دون

حدوث شقاق بين المتعاقدين، لأن مهمة التشريعات أن لا تترك ثغرة للتقاضي.

إن أسلوب الشيخ في مقالاته غير دقيق، وغير علمي، وموهم، ويمكن أن

يستند على بعض منه ذوو الأغراض السيئة، والنوايا الخبيثة.

وإننا لنعجب كثيراً ونشفق على فضيلة المفتي وعلى المسلمين، إذ هو يشككهم

في أمور مجمع عليها، بل تعتبر مما علم من الدين بالضرورة، وإذا تطرق الشك

إلى هذه الأمور وصل الأمر حتما إلى هدم الشريعة من الأساس، فهل يسمح لنا

المفتي أن نسأله: إذا كانت معاملة البنوك ليست ربوية فما هو الربا المحرم شرعاً؟

فإذا قال: هو ما كان مبنياً على الاستغلال، قلنا له: إن الاستغلال حكمة وليست

علة، والحكم لا يدور إلا مع العلة وجوداً وعدماً ...

كما لنا أن نسأله: لقد سبق له أن أفتى بحرمة هذه المعاملات في الفتوى رقم

٥١٥/ ٩٩٨٩ فما الذي جعله يرجع عن تلك الفتوى وهي التي تساير المجمع عليه؟

إن أغلب الظن أن الشيخ مضلل من قبل جماعة درست الاقتصاد على الأسس

الربوية، ولا ترى اقتصاداً يمكن أن يقوم على غيرها، وليس لها تصور للمعاملات

الإسلامية الصحيحة.. وإنا لننصح الشيخ مخلصين أن يرجع إلى الله الذي لا تجدي

عنده التبريرات ولا الاعتذارات من الأتباع بأنهم كانوا مخدوعين أو مضللين من

قبل المتبوعين، فقد سمى القرآن الكريم التابع ظالماً فقال:

[ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا

ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ

الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً]

ننصحه أن يعلن رجوعه عن فتواه الأخيرة فليس عيباً يذكر ولا سيئة تنكر أن

يرجع الإنسان عن خطئه، فالكمال لله وحده والعصمة للأنبياء، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولنا في الصحابة قدوة وفي سلفنا الصالح أسوة، وقد

رجع عمر بن الخطاب عن توريثه في المسألة المشتركة، ورجع ابن عباس في

إباحة ربا الفضل حين تبين له الصواب، فالرجوع إلى الحق فضيلة والحق أحق أن

يتبع.

اللهم قد نصحنا لك ولدينك، وأبرأنا ذمتنا، اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين.

عنهم د. محمد المختار المهدي


(١) بداية المجتهد ٢/٢٦٢.
(٢) نيل الأوطار ٥/٣٠.
(٣) حكم الربا في الشريعة الإسلامية ص ٢٤.
(٤) المغني ٥/١٤٨.
(٥) تكملة المجموع ١٤/٢١٥.
(٦) المغني ٥/١٨٤.
(٧) سبل السلام ٣/٤٥.