للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقفات مع التحقيق والمحققين

(٢)

محمد عبد الله آل شاكر

(يتابع الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر وقفاته مع مدعي التحقيق، وينبه إلى

الاستهانة التي يرتكبها كثير ممن امتهن في هذه المهنة بكتب العلم وبأصول التحقيق

والنشر العلمي.)

- البيان -

- ٥ -

أما إذا يممنا شطر كتب التفسير والحديث المحققة، فإننا نلاحظ جهداً مشكوراً، وعناية جاوزت الحد فانقلبت إلى الضد، مما أسميته (الكتابة على الهامش) ،

حيث تطغى الهوامش والحواشي على المتن، دون ضبط النسبة بينهما، فتجد

أحدهم يخرج حديثاً واحداً في أربع صفحات، وقد يكون من أحاديث الشيخين

(البخاري ومسلم) مما قالوا عنه: إنه جاوز القنطرة، وهذا يريحنا من عناء البحث

والتعب، فالثقة حاصلة بصحته.

ولكن بعض المحققين يحلو له أن يستعرض عضلاته على القراء، فيضع

كتب الرجال والجرح والتعديل في الحاشية، مترجماً لكل راوٍ في السند حتى ولو

كان من مشاهير الصحابة أو الأئمة، ويتبع هذا مجموعة من المصادر للترجمة

تتكرر في كل صفحة تقريباً! كي يصل بعد هذا إلى الحكم على الإسناد، وغالباً ما

يكون مسبوقاً إلى هذا من الأئمة المحدثين والحفاظ. وكان من الأجدى والأيسر على

القارئ أن يشير إلى من فيه كلام من الرواة، دون الكلام على سائر رجال الإسناد.

وقد نعتذر لهم عن هذه الظاهرة، إذ قد يكون سببها أن الباحث بذل جهداً

وأضاع وقتاً في مراجعة المصادر، فأراد أن يشرك القارئ معه، ولم يضن عليه

بالعلم، فوضع كل ما قرأه في حاشية الكتاب، سواء كانت الحاجة تدعو إلى ذلك أو

لا تدعو إليه.

وهذا وإن كان يصلح في الأعمال العلمية بين جدران المعاهد والدراسات العليا

(لإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه) ، فما أظنه صالحاً عندما يعد الباحث رسالته

للنشر في كتاب يطرح في الأسواق بين القراء. مع ما فيه من إضاعة للجهد، ومن

تكاليف باهظة في الطباعة، وإعاقة عن إتمام التحقيق للكتب الكبيرة، فضلاً عن

تفريغ جيوب القراء وطلبة العلم والإثقال عليهم.

والأمثلة هنا كثيرة جداً، تعز على الحصر، ومن آخر ما اطلعت عليه مما

يصدق عليه كلامنا هذا، كتاب (مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك

أبي عبد الله الحكم) لابن الملقن المتوفى سنة (٨٠٤ هـ) في ستة أجزاء، تحقيق

ودراسة عبد الله بن حمد اللحيدان، دار العاصمة بالرياض، ١٤١١ هـ. تجد فيه

المتن يقع في سطرين أو أكثر قليلاً، والتعليق والحواشي في (٤) صفحات تبدأ

بذكر سند الحديث عند الحكم ثم تخريجه، يليه دراسة الإسناد ثم الحكم على الحديث، وغالباً تكون نسبة المتن إلى الحاشية ٤٠/١، فكل سطر يقابله أربعون سطراً في

الحاشية.

وإليك المثال الثاني؛ (تفسير ابن أبي حاتم الرازي) فتحت الكتاب، دون

قصد صفحة معينة، فانفتح على الصفحتين (٤٦ و ٤٧) ، وفي أولاهما أثر ساقه

المؤلف في تفسير قوله تعالى: [هو الذي أنزل عليك الكتاب] عن سعيد بن جبير

قال: (هو القرآن) . وفي الحاشية دراسة لرجال الإسناد، ونتيجة لذلك تقع في

(٥٢) سطراً بحرف دقيق، ويليها بيان درجة الأثر في (٧) أسطر. فأنت أمام

تسعة وخمسين سطراً بحرف صغير، يعدل السطر منها ثلاثة في المتن، والمتن لا

يتجاوز السطرين بحرف كبير. فهل يستطيع القارئ أن يستخرج النسبة دون آلة

حاسبة! ترى ما هي حاجة القارئ إلى هذا الكلام كله عندما أصبح الكتاب متداولاً

بين القراء وطلبة العلم، ولم يعد رسالة علمية جامعية؟ رغم الجهد الطيب المبذول

لإخراج هذا الأثر النفيس، وجزى الله العاملين المخلصين كل خير.

ولست أدري كم يستغرق إخراج هذا الكتاب كاملاً؟ وكذلك كتاب (شُعَب

الإيمان) للبيهقي، الذي يطبع في الهند؟ وأمثالهما من الكتب والموسوعات!

- ٦ -

ولعل تقاعس الهمم وفتور العزائم، أو النفور من الأعمال الكبيرة التي تحتاج

إلى وقت وصبر وجهد، جعلت بعض المحققين يصرفون عنايتهم إلى الأجزاء

الحديثة الصغيرة، وهي غالباً لا تضيف جديداً إلى كتب الأصول والمصادر

الأساسية المتداولة، تلك التي لم يخدم أكثرها خدمة طيبة تليق بها، إذا استثنينا ما

قام به الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله، من جهد في إخراج عدد منها

كصحيح مسلم، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجه (رحمهم الله جميعاً) ، والشيخ أحمد

شاكر في (المسند) للإمام أحمد.

والكتب الأصول أَوْلى بالعناية والاهتمام والإخراج المتقن الذي يليق بها

وبمكانتها، وكم من هذه الكتب، مما لا يزال مخطوطاً، أو مطبوعاً طبعات قديمة

رديئة! يحتاج إلى عناية! ومما يتصل بهذا: العناية بكتب (الزوائد) في الحديث، مع وجود الكتب الأصلية التي جُرَّدت زوائدها. فمع وجود (صحيح ابن حبان)

مثلاً، لا ينبغي الاشتغال بزوائده، لئلا يكون ذلك على حساب عمل آخر أكثر

أهمية، ومع وجود (معاجم الطبراني الثلاثة) تقل أهمية زوائدها، ما لم يكن في

هذه الزوائد فوائد خاصة بها، وقد كان لهذه الكتب أهميتها عند عدم وجود كتب

الأصول، ويصدق هذا أيضاً على (مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحكم)

فهو تلخيص للملخص، وكان الأجدى العناية بالمستدرك نفسه. والطريف أن

المستدرك يقع في أربع مجلدات، وتلخيص التلخيص يقع في سنة مجلدات!

- ٧ -

وفي غير كتب الحديث. نجد رسائل لا تتجاوز عشرين سطراً من المخطوط، أو لا تبلغ ورقة منه، فينفخ فيها المحقق ويحقنها بالدراسة والترجمة والتعليق

ومنهج البحث، وما شئت من هذه الألفاظ التي يتشدق بها، فتفعل هذه الحقنة فعلها

في تضخيم هذه الورقة أو الوريقات فتجعل منها كتاباً راشداً يستوي على قدميه.

وقد نجد لمؤلف واحد مجموعة كبيرة من الرسائل، يخرج المحقق لها كل

رسالة بغلاف مستقل، وكان أولى وأجدى وأكثر حفظاً لهذه الرسالة، لو أنه أخرج

المجموعة كلها بكتاب واحد، مع دراسة موجزة وتحقيق وتوثيق، لئلا يتكرر هذا

مع كل رسالة بمفردها.

وتجد مثلاً على ذلك في: (ذوق الطلاب في علم الإعراب) تأليف الشيخ

محمد أحمد عبد القادر الحفظي، تحقيق عبد الله محمد حسين أبو داهش. يقع

الكتاب في صفحتين اثنتين مجرداً من الهوامش، ومع الهوامش والتعليقات يبلغ (٥)

صفحات، فإذا جمعتها مع المقدمات والتعريف بالكاتب بلغت (٣٣) صفحة. قال

المحقق: (وقد رأيت تحقيق هذا المخطوط سبيلاً للتعريف بأسرة آل ... الحفظي، برجال ألمع، ودعوة لتحقيق تراثهم النادر..) ودون أن نتساءل عن قيمة هذا التراث - الذي اطلعت على نماذج محققة منه - لأنه يحتاج إلى دراسة؛ ترى ما هي علاقة موضوع الكتاب بهذا الذي أراده المحقق؟ ثم أليس بإمكانه أن يكتب كتاباً عن أسرة آل الحفظي وتراثهم، ثم يجمع هذا التراث في ضميمة واحدة؟

وما يصدق هنا يصدق على رسائل السيوطي - التي كانت في طبعتها الأولى

بمجلدين فأصبحت الآن مئات الكتب كل كتاب ورقتين أو ثلاثة وقد يزيد - وكذلك

في رسائل الملا علي القاري التي ظهرت أخيراً موزعة مفتتة، وهي في أصلها

مجموع واحد!

ولعله لا يغيب عن ذهن القارئ: أن هذه الملاحظات لا تعني التقليل من

أهمية الكتب التي سبقت الإشارة إليها، ولا تعني إهمالها، ولا أننا ننقص أصحاب

الجهد ونبخسهم حقهم، وإنما قصدت إلى توجيه العناية بالأمهات والبدء بالأولويات

وتقديم ما هو أكثر أهمية على ما هو أقل في الأهمية. كما قصدت المحافظة على

هذا التراث من الضياع، وعلى الجهد من أن يتبدد أو يذهب سدى.

- ٨ -

وإذا كان من الأجدى أن يبدأ الباحثون من حيث انتهى غيرهم، كما يستفيدوا

من جهود السابقين، ويتابعوا عملية إتمام البناء الذي سبقوا إليه، فإنه من العبث،

ومن التجاهل لجهود الآخرين، أن نقوم بتكرار العمل وإضاعة الجهد في كتب قد

خدمت خدمة طيبة.

ويعرف الجميع ما قام به الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، وما بذل من عناية

في إخراج بعض كتب السنة، مما سبقت الإشارة إليه، فمثلاً: أخرج (سنن ابن

ماجه) في جزئين، وحقق نصوصه، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه، وضبط كلماته، وعلق عليه، واقتبس خلاصة مما كتبه البوصيري في (الزوائد) ، وصنع له

الفهارس التي تعين على الاستفادة منه، مع عناية بالغة وإتقان في الإخراج. ومع

هذا كله، فإن أول كتاب اتجهت إليه عناية الدكتور الأعظمي، من الكتب الستة،

هو كتاب (سنن ابن ماجه) نفسه، فقد أخرجه في أربع مجلدات، اثنان منها

للفهارس، مستعيناً بالحاسب الآلي. وما أظن أن هناك ما يسوغ هذا العمل رغم ما

قد يكون فيه من استدراك على السابق، ولكنه أمر يسير. ولعل الله يهيء له العمل

لإنجاز مشروعه وقد اتجهت الجهود لما ينبغي أن تتجه إليه.

- ٩ -

ومن صور العدوان على تراثنا العلمي والعبث به، ما قد يدعو إليه زعم

التيسير والتسهيل، وكأننا أمة لم تخلق إلا لهذا السهل اليسير الذي استمرأناه،

وليس من شأننا أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى الأمة القائدة الرائدة التي لا تعبأ

بالصعاب، وتبذل كل جهد لتبقى متربعة على قمة المجد.

وباسم التيسير والتسهيل، يعمد أحدهم، وقد يكون فرداً أو مؤسسة، إلى

كتاب من كتب التراث فيغير ترتيبه، فلا هو الكتاب الذي وضعه مؤلفه، ولا هو

كتاب أنشأه مرتبه، مع أن الكتاب الأول معروف منذ قرون متطاولة بشكله الأول،

والعزو إليه وهو في صورته تلك ... ومن أقرب الأمثلة لهذا: (لسان العرب) لابن

منظور الذي طبعته دار المعارف بمصر طبعة جديدة مرتباً على أوائل الكلمات

كطريقة (أساس البلاغة) أو (المصباح المنير) .

- ١٠ -

وبعد: فقد سبقتنا الأمم الأخرى أشواطاً كثيرة في العلم المادي وفي الصناعة

وغيرها، لو ركضنا ركضاً ما استطعنا - وهذا حالنا - أن نلحق بها، فضلاً عن

أن نسبقها، ونحن في ذلك مقصرون ومفرطون تفريطاً معيباً، فلا أدري لماذا

ينصرف إخواننا الكرام، أصحاب المؤهلات والتخصصات العلمية، عن

تخصصاتهم ومجال إبداعهم رغم حاجتنا إلى جهودهم، ينصرفون عن هذا إلى

مجالات أخرى، فيكتب الطبيب في الفقه والحديث، والمهندس في الجرح والتعديل، والكيميائي في التفسير، والشاعر الأديب يتحول إلى فقيه ... بحجة أنه ليس في

الإسلام (هيئة أكليروس) أو بحجة الاجتهاد ومحاولة التقليد ... هكذا دون احترام

للاختصاص - ونحن في عصر التخصص الدقيق كما يقولون - ولا احترام للعلم

وأهله، وقد لا يملكون المؤهلات التي تؤهلهم لما يقومون به، أو إن تكوينهم العلمي

والفكري الذي درجوا عليه، قد لا يساعدهم على إتقان ما توجهوا إليه أخيراً -

عندما عزفوا عن القيام بفرض كفائي -، أو أنهم يفهمون عبارات العلماء وأقوالهم

على غير وجهها ويضعونها في غير موضعها، فأصبحت تجد تعليقاً على حديث

أخرجه مسلم، مثل هذه العبارة (حسن على رأي من يقبل عنعنات الصحيحين،

وهما ابن صلاح والنووي) يعني أنه ضعيف عند غيرهما! وهو من ... أحاديث الصحيح ... وتجد أمثال هذه العبارة: (قال النووي - وليس كما

زعم -) أي ليس كما زعم النووي - رحمه الله -، وزعم مطية الكذب كما ... يقولون. فأين الأدب واحترام العلماء الذين أرشدنا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أم أن المحققين يشغلون أنفسهم بالسند دون العمل بالحديث!

وأسأل الله لي ولهم ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق، و (أن يرزقنا فهماً

في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يرزقنا قولاً وعملاً يؤدي به عنا

حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده) . والحمد لله رب العالمين.