للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالصفاتُ التي تدورُ عليها الصِّحَّةُ في كتاب البخاري أَتَمُّ منها في كتابِ مُسْلِمٍ وأَشَدُّ، وشرطُه فيها أقوى وأسَدُّ.

أمّا رُجْحانُه من حيثُ الاتصالُ: فَلِاشتراطِه أنْ يكونَ الراوي قد ثَبَتَ له لِقاءُ مَنْ روى عنه ولو مَرَّة، واكتفى مُسْلِمٌ بمُطْلَقِ المُعاصَرَة، وألزمَ البخاريَّ (١) بأنه يحتاجُ ألّا يَقْبَلَ العنعنةَ أصلًا، وما ألزمَهُ به ليس بلازمٍ لأنّ الراويَ إذا ثَبَتَ له اللقاء مرةً لا يجري في رواياتِه احتمالُ ألّا يكونَ سَمِعَ، لأنه يَلْزَمُ من جريانِه أنْ يكونَ مُدَلِّسًا (٢)، والمسألةُ مفروضةٌ في غير المُدَلِّس.

وأمّا رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ والضبطُ: فلأنّ الرجالَ الذين تُكُلِّمَ فيهم مِن رجالِ مُسلمٍ أكثرُ عددًا من الرجال الذين تُكُلِّمَ فيهم مِنْ رجالِ البخاري (٣)، مع أنّ البخاريَّ لم يُكْثِرْ مِن إخراجِ حديثِهم، بل غَالِبُهم من شيوخه الذين أَخذ عنهم ومارس حديثَهم، بخلافِ مُسلمٍ في الأمرين.

وأمّا رُجحانُه من حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ: فلأنَّ ما انْتُقِدَ على البخاري من الأحاديث أقلُّ عددًا مما انْتُقِدَ على مسلمٍ (٤).


(١) "وألزمَ البخاريَّ": مرادهُ ألزم مسلمٌ البخاريَّ بأنه يجب على رأيه هذا ألّا يَقْبَلَ المعنعنَ أصلًا، أي الحديثَ الذي فيه فلانٌ عن فلان، لكنّ الواقعَ أنّ البخاريَّ يقبلُ المعنعنَ وكذا غيرَه من الأئمة أيضًا. فدَلَّ ذلك على بُطْلانِ هذا المذهب.
والذي تبين لكاتب السطور بالبحث أنّ مسلمًا لا يقصدُ البخاريَّ في كلامه المشارِ إليه، بل يقصدُ غيرَه، وقد وافقني على ذلك بعضُ المحققينَ في هذا العصر بالمذاكرة معه.
(٢) المُدَلِّس: هو الراوي الذي يستعمل عبارةً تُوهِمُ سماعَ ما لم يَسمَعْ. وسيأتي مفصلًا ص ٨٥.
(٣) رجالُ البخاري أربع مئة وبضع وثمانون رجلًا تُكُلِّم في ثمانين منهم بالضعف، أمّا رجالُ مسلمٍ فَسِتُّ مئة وعشرون، تُكُلِّمَ في مئة وستين. فكان البخاري أَرْجَحَ من هذه الناحية، وإن كان الكلامُ أي النقدُ الذي صدر على رواتهما غيرَ مؤثرٍ. وانظر لقط الدرر: ٤٥.
(٤) انتقد على الصحيحين مئتان وعشرة أحاديث، انفرد البخاريُّ بثمانية وسبعين حديثًا، وانفرد مسلم بمئة، واشتركا في الباقي.

<<  <   >  >>