للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَعُقُوبَاتُ الشَّارِعِ جَاءَتْ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَوْفَقِهَا لِلْعَقْلِ، وَأَقْوَمِهَا بِالْمَصْلَحَةِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ إِنَّمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ أَوِ الْقَدَرِيَّةُ أَوْ يَجْمَعُهَا اللَّهُ لِلْعَبْدِ، وَقَدْ يَرْفَعُهَا عَمَّنْ تَابَ وَأَحْسَنَ.

[فَصْلٌ عُقُوبَاتُ الذُّنُوبِ شَرْعِيَّةٌ وَقَدَرِيَّةٌ]

فَصْلٌ

عُقُوبَاتُ الذُّنُوبِ شَرْعِيَّةٌ وَقَدَرِيَّةٌ

وَعُقُوبَاتُ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ: شَرْعِيَّةٌ، وَقَدَرِيَّةٌ، فَإِذَا أُقِيمَتِ الشَّرْعِيَّةٌ رُفِعَتِ الْعُقُوبَةُ الْقَدَرِيَّةُ وَخَفَّفَتْهَا، وَلَا يَكَادُ الرَّبُّ تَعَالَى يَجْمَعُ عَلَى الْعَبْدِ بَيْنَ الْعُقُوبَتَيْنِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَفِ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِ مُوجَبِ الذَّنْبِ، وَلَمْ يَكْفِ فِي زَوَالِ دَائِهِ، وَإِذَا عُطِّلَتِ الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ اسْتَحَالَتْ قَدَرِيَّةً، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ مِنَ الشَّرْعِيَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ دُونَهَا، وَلَكِنَّهَا تَعُمُّ، وَالشَّرْعِيَّةُ تَخُصُّ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعَاقِبُ شَرْعًا إِلَّا مَنْ بَاشَرَ الْجِنَايَةَ أَوْ تَسَبَّبَ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ الْقَدَرِيَّةُ فَإِنَّهَا تَقَعُ عَامَّةً وَخَاصَّةً، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ إِذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، وَإِذَا أُعْلِنَتْ ضَرَّتِ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَإِذَا رَأَى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَتَرَكُوا إِنْكَارَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ شَرَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ مَفْسَدَةِ الذَّنْبِ وَتَقَاضِي الطَّبْعِ لَهَا، وَجَعَلَهَا سُبْحَانَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ وَالْجَلْدَ، وَجَعَلَ الْقَتْلَ بِإِزَاءِ الْكُفْرِ وَمَا يَلِيهِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ، وَهُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ، فَإِنَّ هَذَا يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْأَنْسَابَ وَنَوْعَ الْإِنْسَانِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ بَعْدَ الْقَتْلِ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنَ الزِّنَا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا» {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ ٦٨] .

وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَعْلَاهُ لِيُطَابِقَ جَوَابُهُ سُؤَالَ السَّائِلِ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أَعْظَمِ الذَّنْبِ، فَأَجَابَهُ بِمَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ أَعْظَمِ أَنْوَاعِهَا، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ كُلِّ نَوْعٍ.

فَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدُ لِلَّهِ نِدًّا.

<<  <   >  >>