للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: ٥٥] .

وَهَذِهِ اللَّذَّةُ تَنْقَلِبُ آخِرًا آلَامًا مِنْ أَعْظَمِ الْآلَامِ، كَمَا قِيلَ:

مَآرِبُ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لِأَهْلِهَا ... عَذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَعَادِ عَذَابًا

النَّوْعُ الثَّالِثُ: لَذَّةٌ لَا تُعْقِبُ لَذَّةً فِي دَارِ الْقَرَارِ وَلَا أَلَمًا، وَلَا تَمْنَعُ أَصْلَ لَذَّةِ دَارِ الْقَرَارِ، وَإِنْ مَنَعَتْ كَمَالَهَا، وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْمُبَاحَةُ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ زَمَانُهَا يَسِيرٌ، لَيْسَ لِتَمَتُّعِ النَّفْسِ بِهَا قَدْرٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَشْتَغِلَ عَمَّا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ مِنْهَا.

وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ» .

فَمَا أَعَانَ عَلَى اللَّذَّةِ الْمَطْلُوبَةِ لِذَاتِهَا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا لَمْ يُعِنْ عَلَيْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ.

[فَصْلٌ الْحُبُّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ]

فَصْلٌ

الْحُبُّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ

فَهَذَا الْحُبُّ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ، بَلْ هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ، وَكَذَلِكَ حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا نَعْنِي الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ، الَّتِي تَشْغَلُ قَلْبَ الْمُحِبِّ وَفِكْرَهُ وَذِكْرَهُ بِمَحْبُوبِهِ، وَإِلَّا فَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ إِلَّا بِهَا، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ تَفَاوُتًا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، فَبَيْنَ مَحَبَّةِ الْخَلِيلَيْنِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا، فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُلَطِّفُ وَتُخَفِّفُ أَثْقَالَ التَّكَالِيفِ، وَتُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَتُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَتُصَفِّي الذِّهْنَ، وَتُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَتُطَيِّبُ الْحَيَاةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَا مَحَبَّةُ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا بُلِيَتِ السَّرَائِرُ يَوْمَ اللِّقَاءِ، وَكَانَتْ سَرِيرَةُ صَاحِبِهَا مِنْ خَيْرِ سَرَائِرِ الْعِبَادِ، كَمَا قِيلَ:

سَيَبْقَى لَكُمْ فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا ... سَرِيرَةُ حُبٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُنَوِّرُ الْوَجْهَ، وَتَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَتُحْيِي الْقَلْبَ، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ كَلَامِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَةِ حُبِّ اللَّهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَانْظُرْ مَحَبَّةَ الْقُرْآنِ مِنْ قَلْبِكَ، وَالْتِذَاذَكَ بِسَمَاعِهِ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ أَصْحَابِ الْمَلَاهِي وَالْغَنَاءِ الْمُطْرِبِ بِسَمَاعِهِمْ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ مَحْبُوبًا كَانَ كَلَامُهُ وَحَدِيثُهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ:

<<  <   >  >>