للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَإِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لَا تَحْمِلُهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ صَغُرَ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، الْكَبِيرِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَكْبَرُ مِنْهُ، الْجَلِيلِ الَّذِي لَا أَجَلَّ مِنْهُ وَلَا أَجْمَلَ، الْمُنْعِمِ بِجَمِيعِ أَصْنَافِ النِّعَمِ دَقِيقِهَا وَجُلِّهَا - مِنْ أَقْبَحِ الْأُمُورِ وَأَفْظَعِهَا وَأَشْنَعِهَا، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعُظَمَاءِ وَالْأَجِلَّاءِ وَسَادَاتِ النَّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِحُهُ كُلُّ أَحَدٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ. وَأَرْذَلُ النَّاسِ وَأَسْقَطُهُمْ مُرُوءَةً مَنْ قَابَلَهُمْ بِالرَّذَائِلِ، فَكَيْفَ بِعَظِيمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَلِكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَهِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَلَوْلَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَمَغْفِرَتَهُ سَبَقَتْ عُقُوبَتَهُ، وَإِلَّا لَتَدَكْدَكَتِ الْأَرْضُ بِمَنْ قَابَلَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ مُقَابَلَتُهُ بِهِ، وَلَوْلَا حِلْمُهُ وَمَغْفِرَتُهُ لَزُلْزِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ مَعَاصِي الْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [سُورَةُ فَاطِرٍ: ٤١] .

فَتَأَمَّلْ خَتْمَ هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهُمَا: " الْحَلِيمُ، وَالْغَفُورُ " كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا حِلْمُهُ عَنِ الْجُنَاةِ وَمَغْفِرَتُهُ لِلْعُصَاةِ لَمَا اسْتَقَرَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كُفْرِ بَعْضِ عِبَادِهِ أَنَّهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: ٩٠] .

وَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَاهُ وَخَالَفَا فِيهِ نَهْيَهُ، وَلَعَنَ إِبْلِيسَ وَطَرَدَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَهُ وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَهُ، وَنَحْنُ مَعَاشِرُ الْحَمْقَى كَمَا قِيلَ:

نَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَنَرْتَجِي ... دَرَجَ الْجِنَانِ لِذِي النَّعِيمِ الْخَالِدِ

وَلَقَدْ عَلِمْنَا أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنْ ... مَلَكُوتِهِ الْأَعْلَى بِذَنْبٍ وَاحِدِ

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَأَرْفَعَ دَرَجَةً، وَقَدْ تُضْعِفُ الْخَطِيئَةُ هِمَّتَهُ وَتُوهِنُ عَزْمَهُ، وَتُمْرِضُ قَلْبَهُ، فَلَا يَقْوَى دَوَاءُ التَّوْبَةِ عَلَى إِعَادَتِهِ إِلَى الصِّحَّةِ الْأَوْلَى، فَلَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَقَدْ يَزُولُ الْمَرَضُ بِحَيْثُ تَعُودُ الصِّحَّةُ كَمَا كَانَتْ وَيَعُودُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ، فَيَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ.

هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ نُزُولُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى أَمْرٍ يَقْدَحُ فِي أَصْلِ إِيمَانِهِ، مِثْلِ الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ وَالنِّفَاقِ، فَذَاكَ نُزُولٌ لَا يُرْجَى لِصَاحِبِهِ صُعُودٌ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِسْلَامِهِ.

[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُجَرِّئُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْدَاءَهُ]

فَصْلٌ

الْمَعَاصِي تُجَرِّئُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْدَاءَهُ

<<  <   >  >>