للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرأس بين يدي المنصور فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء أخبرتك أنه ليس في عسكرك ألف ولا خمسمائة ولا مائة ولا خمسون ولا عشرون ولا عشرة! فرد ابن المضجعي إلى منزلته وأكرمه.

واعلم أن أول الحرب شكوى وأوسطها نجوى وأخرها بلوى. الحرب شعثاء عابسة شوهاء كالحة، حزوز في حياض الموت شموس في الوطيس، تتغذى بالنفوس. الحرب أولها الكلام وآخرها الحمام. الحرب مرة المذاق إذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عرف ومن ضعف عنها تلف. جسم الحرب الشجاعة وقلبها التدبير، وعينها الحذر وجناحها الطاعة ولسانها المكيدة، وقائدها الرفق وسائقها النصر. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة. وقالوا: الحرب غشوم؛ سميت بذلك لأنها تتخطى إلى غير الجاني كما قال الشاعر:

لم أكن من جناتها علم الل

هـ وإني لحربها اليوم صالي

وقال آخر:

رأيت الحرب يجنيها أناس

ويصلي حرها قوم براء

وقال آخر:

الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول

حتى إذا اضطرمت وشب ضرامها

عادت عجوزاً غير ذات خليل

شمطاً تنكر لونها وتغيرت

مكروهة للشم والتقبيل

وقال بعض الحكماء: قد جمع الله لنا آداب الحرب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال٤٦: ٤٥) . واستوصى قوم أكثم بن صيفي في حرب أرادوها فقال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح فشل ولا جماعة لمن اختلف، وتثبتوا فإن أحزم الفريقين الزكين. وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترون أصحاب محمد جثياً على الركب خرساً يتلمظون تلمظ الحباب؟ ورأيت غير واحد ممن ألف في الحروب يكره رفع الصوت بالتكبير ويقول يذكر الله تعالى في نفسه.

واعلم أرشدك الله تعالى أن الله تعالى قد وضح لنا في كتابه العزيز علة النصر وعلة الهزيمة والفرار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧)

يعني إن تنصروا رسوله ودينه، وأما الفرار فعلته المعاصي. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران: ١٥٥) . أي بشؤم ذنوبهم وتركهم المركز الذي رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رتب الرماة يوم أحد على ثلمة الجبل، ليمنعوا قريشاً أن يخرجوا عليهم كمينا من ذلك الموضع، ثم التقى المسلمون بالكفار فانهزم الكفار فقال الرماة لا تفوتنا الغنائم! فأقبلوا على الغنائم وتركوا المركز الأول، فخرجت خيل المشركين من هناك وأقبلوا على المسلمين فكانت مقتلة أحمد.

وليخف قائد الجيش العلامة التي هو مشهور بها، فإن عدوه قد استعلم حليته وألوان خيله ورايته، ولا يلزم خيمته ليلاً ولا نهاراً وليبدل زيه ويغير خيمته ويعمي مكانه، حتى لا يلتمس عدوه غرته، وإذا سكنت الحرب فلا يمش في النفر اليسير من قومه خارج عسكره، فإن عيون عدوه قد أدليت عليه. وعلى هذا الوجه كسر المسلمون جيوش أفريقية عند فتحها، وذلك أن الحرب سكنت في وسط النهار فخرج مقدم العدو، يمشي خارج العسكر ويتميز عساكر المسلمين، فجاء الخبر إلى عبد الله بن أبي السرح وهو نائم في قبته، فخرج فيمن وثق به من رجاله وحمل على العدو، فقتل الملك وانهزم جميع أصحابه وكان الفتح.

ولما عبر

<<  <   >  >>