للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وازدجر عن زواجره حل منه محل الرضى؟ فواعجباً لمن يغضب على واليه إذا خالفه، ثم لا يخاف سطوة ربه عليه إذا خالفه! فهذا طريق إقامة العدل الشرعي، والسياسة الاصطلاحية الجامعة لوجوه المصلحة الآخذة لأزمة التدبير، السالمة من العيوب الممهدة لاستقامة الدنيا والدين. وكما أن الملك الحازم لا يتم حزمه إلا بمشاورة الوزراء الأخيار كذلك لا يتم عدله إلا باستفتاء العلماء الأبرار.

وقد وقع المأمون في قضية متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمر، واعمر نعمتك بالعدل فإن الجور يهدمها، وفي إشاعة العدل قوة القلوب وطيب النفس ولزوم اليقين وأمان من العدو. ولما استأذن الهرمزان على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يجد عنده حاجباً ولا بواباً فقيل له: هو في المسجد، فأتى المسجد فوجده مستلقياً متوسداً كوماً من الحصى ودرته بين يديه، فقال له الهرمزان: يا عمر عدلت فأمنت فنمت! وقال الحسن بن علي: رأيت عثمان رضي الله عنه وقد جمع الحصى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه، وقد وضع إحدى جانبي ردائه عليه وهو يومئذ أمير المؤمنين، ما عنده أحد من الناس ودرته بين يديه.

وكتب عامل حمص إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى الإصلاح فكتب إليه عمر: حصنها بالعدل ونق طرقها من الجور، والسلام. وقالت الحكماء: من حرم العدل فلا خير له ولا للناس في سلطانه. وقال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستان والشمس على يساري والمأمون في الظل، فلما رجعنا وقعت الشمس أيضاً علي، فقال لي المأمون: تحول مكاني وأنا أتحول مكانك حتى تكون في الظل كما كنت، وأقيك الشمس كما وقيتني، فإن أول العدل أن يعدل الرجل على بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ العدل الطبقة السفلى. فعزم علي فتحولت.

وكان يقال: ليس شيء أبعد من بقاء ملك الغاصب. وقيل للإسكندر: لو أكثرت من النساء حتى يكثر نسلك ويحيا ذكرك. فقال: إنما يحيي الذكر الأفعال الجميلة والسيرة الحميدة، ولا يحسن بمن يغلب الرجال أن تغلبه النساء. وقال الحكيم: من اتخذ العدل سنة كان له أحصن جنة، ومن استشعر حلة العدل فقد استكمل رتبة الفضل. وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: إن الإمام العادل ليسكنن الأصوات عن الله تعالى. وقال الحكيم: لا يزال السلطان ممهلاً حتى يتخطى إلى أركان العمارة ومباني الشريعة، فحينئذ يريح الله منه. وقالوا: لا تظلم الضعفاء فتكون من لثام الأقوياء، وقال بعض الحكماء: أمير بلا عدل كغيم بلا مطر، وعالم بلا ورع كأرض بلا نبات، وشاب بلا توبة كشجر بلا ثمر، وغنى بلا سخاء كقفل بلا مفتاح، وفقر بلا صبر كسراج بلا ضوء، وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح.

وقال كسرى: اتفقت ملوك العجم على أربع خصال: أن الطعام لا يؤكل إلا شهوة، والمرأة لا تنظر إلا إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل. وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل الملوك الذين بعدلهم يعدل من دونهم، والذين إذا قالوا أو فعلوا كان نافذاً غير مردود. وقالت الحكماء: رم ما شئت بالإنصاف وأنا زعيم لك بالظفر به. والظلم أدعى شيء إلى تغيير نعمة أو تعجيل نقمة. وقال الحكيم: شر الزاد إلى المعاد الذنب بعد الذنب، وشر من هذا العدوان على العباد، ومتى أراد السلطان حسن الصيت وجميل الذكر فليقم سوق العدل، وإن أحب الزلفى عند الله وشرف المنزلة عنده فليقم سوق العدل، والذي يخلد به ذكر الملوك على غابر الدهور عدل

<<  <   >  >>