للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التلال العفر. وقال عبد الملك: من قرب السفلة وأدناهم وباعد ذوي العقل وأقصاهم استحق الخذلان، ومن منع المال من الحمد ورثه من لا يحمده. ومن الكلام الشريف قول الحكماء: ما أحوج ذا القدرة إلى دين يحجزه وحياء يكفه وعقل يعدله، وإلى تجربة طويلة وعبر محفوظة، وإلى أعراق تسري إليه وأخلاق تسهل الأمور عليه، وإلى جليس رفيق ورائد شفيق، وإلى عين تنظر العواقب وعقل يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم ظفر الأيام لم يحترس من سطوات الدهر، ومن لم يتحفظ من فلتان الزلل لم يتعاظمه ذنب وإن عظم ولا ثناء وإن سمج، وإذا رأيت من جليسك أمرأ تكرهه أو خلة لا تحبها، أو صدرت منه كلمة عوراء أو هفوة غبراء، فلا تقطع حبله ولا تصرم وده، ولكن داو كلمه واستر عورته فأبقه وابرأ من عمله. قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: ٢١٦) ، فلم يأمره بقطعهم وإنما أمره بالبراءة من عملهم السوء. قال الشاعر:

إذا راب مني مفصل فقطعته

بقيت وما بي للنهوض مفاصل

ولكن أداويه فإن صح سرني

وإن هو أعيى كان فيه تحامل

وجاء رجل إلى بعض الحكماء فشكى إليه صديقه، وعزم على قطعه والانتقام منه، فقال له الحكيم: أتفهم ما أقول لك فأكلمك، أم بك من ثورة الغضب ما يشغلك عنه؟ فقال: إني لما تقول واعٍ. فقال: أسرورك بمودته كان أطول أم غمك بذنبه؟ فقال: بل سروري. قال: أفحسناته عندك أكثر أم سيئاته؟ قال: بل حسناته. قال: فاصفح يصالح أيامك عن ذنبه وهب لسرورك جرمه، واطرح مؤونة الغضب والانتقام منه، ولعلك لا تنال ما أملت فتطول مصاحبة الغضب وأنت صائر إلى ما تحب.

[الباب السادس والعشرون: في بيان معرفة الخصال التي هي جمال السلطان]

قد ذكرنا الخصال التي تجري من المملكة مجرى الأساس من البنيان، ونذكر الآن الخصال التي تجري من المملكة مجرى التاج والطيلسان وحسن الهيئة والكمال، فأصلها وقاعدتها العفو. قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) . فلما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب جبريل ثم عاد فقال: يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عن ظلمك. واعلموا أرشدكم الله أن الله تعالى أمر بالعفو وندب إليه، وذكر فضيلته وحث عليه ووصف به نفسه، فقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: ١٣٤) . فأوجب الله تعالى محبته للعافين وأثنى عليهم بالإحسان فقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: ٤٣) ، وعزائم الأمور من صفات المصطفين من الرسل عليهم السلام. قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الاحقاف: ٣٥)

وقال سبحانه: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى: ٣٧) . وقال سبحانه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: ٢٢) . فاستعطف الخلق وندبهم إلى أن يعفو عن الجناة والظالمين والخاطئين كما يحبون أن يفعل الله بهم. وقال فيمن انتصر ولم يعف: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: ٤١) . فرفع الحرج عن المنتصر والمنتقم ولم يوجب له فضيلة. ثم كشف الغطاء وأزاح العذر وصرح بتفضيل العافين على المنتصرين، والواهبين حقوقهم على المنتقمين، فقال

<<  <   >  >>