للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ليس علي في الحلم مؤونة، ولوددت أن أهل الجرائم علموا رأيي في الحلم فيذهب الخوف فتخلص لي قلوبهم وقال رجل للمنصور: يا أمير المؤمنين إن الانتقام انتصاف والتجاوز فضل، والمتجاوز قد جاوز حد المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجتين، فاعف عنا يعف الله عنك. فعفا عنهم. وأنشدوا:

وإذا بغى باغ عليك بجهله

فاقتله بالمعروف لا بالمنكر

وقال بعضهم لمسلم بن قتيبة لما عفا عنه: والله ما أدري أيها الأمير، أي يوميك أشرف: أيوم ظفرت أم يوم عفوت؟ وقال الشاعر:

ما زلت في العفو للذنوب وإط

لاقك جان يجرمه علق

حتى تمنى العصاة أنهم

عندك أمسوا في القيد والحلق

ورفع إلى أنوشروان: إن العامة تؤنب الملك في معاودة الصفح عن المذنبين مع تتابعهم في الذنوب، فوقع المجرمون مرضى ونحن أطباء، وليس معاودة الداء إياهم بمانعنا من معاودة العلاج لهم. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة. وقال رجل لعبد الملك بن مروان لما ظفر بالمهلب: ما رأيت أحداً يا أمير المؤمنين ظلم ظلمك، ولا نصر نصرك ولا عفا عفوك. وقال بعض التابعين: المعاقب مستدع لعداوة أولياء المذنب، والعافي مستدع لشكرهم أو مكافأتهم أيام قدرتهم، ولأن يثني عليك باتساع الصدر خير من أن تنسب إلى ضيقه، وإقالة العثرة موجبة إقالة عثرتك من ربك، وعفوك عن الناس موصول يعفو الله عنك، وعقابك لهم موصول بعقاب الله تعالى لك، والله يحب العافين. وقال المنصور: عقوبة الأحرار التعريض وعقوبة الأشرار التصريح. وقال المأمون:

لما رأيت الذنوب جلت

عن المجازة بالعقاب

جعلت فيها العقاب عفواً

أمضى من الضرب للرقاب

وقال الأحنف: لا تزال العرب بينة الفضل ما لم تعد العفو ضيماً والبذل شرفاً. وفي الحكمة: إذا انتقمت فقد انتصفت، وإذا عفوت فقد تفضلت. وقال بعض الحكماء: اقبل العذر وإن كان مصنوعاً، وإلا أن يكون مما أوجبت المروءة قطيعته، أو يكون في قبولك عذره تشجيعه على المكروه أو عونه على الشر، فإن قبولك العذر فيه اشتراك في المنكر. ولما دخل الفيل دمشق حشد الناس لرؤيته وصعد معاوية في علية له متطلعاً، فبينا هو كذلك إذ نظر في بعض الحجر في قصره رجلاً مع بعض حرمه، فأتى الحجرة ودق الباب فلم يكن من فتحه بد، فوقعت عينه على الرجل فقال له: يا هذا أفي قصري وتحت جناحي تهتك حرمي وأنت في قبضتي؟ ما حملك على ذلك؟ فبهت الرجل وقال: حلمك أوقعني! قال له معاوية: فإن عفوت عنك تسترها علي؟ قال: نعم. فخلى سبيله، وهذا من الدهاء العظيم والحلم الواسع أن يطلب الستر من الجاني، وهو عروض قول الشاعر:

إذا مرضنا أتيناكم نعودكم

وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

وأتى موسى الهادي برجل قد جنى، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل: إن اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري بما ذكرت ذنب، ولكني أقول:

فإن كنت ترجو في العقوبة راحة

فلا تزهدن عند المعافاة في الآجر!

فأمر بإطلاقه. وقال المهلب: لا شيء أبقى للملك من العفو، فإن الملك إذا وثقت رعيته منه

<<  <   >  >>