للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب. وقال بعضهم: خمير الرأي خير من فطيره وتقديمه خير من تأخيره. وقال صاحب كتاب التاج: إن بعض ملوك العجم استشار وزراءه، فقال بعضهم: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً، فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر للسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض. وكان بعض ملوك العجم إذا شاور مرازبته فقصروا في الرأي، دعا الموكلين بأرزاقهم فعاقبهم فيقولون: تخطئ مرازبتك وتعاقبنا؟ فيقول: نعم لم يخطئوا إلا لتعلق قلوبهم بأرزاقهم وإذا اهتموا أخطأوا.

وكانوا إذا اهتموا بمشاورة رجل بعثوا إليه بقوته وقوت عياله لسنة ليتفرغ لبه. وكان يقال: النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت وإذا شاورت فاصدق الخبر تصدقك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك. وقال بعض ملوك العجم: لا يمنعك شدة بأسك في باطنك، ولا علو مكانك في نفسك من أن تجمع إلى رأيك رأي غيرك، فإن أصبت حمدت وإن أخطأت عذرت، فإن في ذلك خصالاً منها إن وافق رأيك رأي غيرك ازداد رأيك شدة عندك، وإن خالفه عرضته على نظرك، فإن رأيته معتلياً لما رأيته قبلته، وإن رأيته متضعاً استغنيت عنه. وذلك أنه يجدد لك النصيحة ممن شاورته وإن أخطأ، وتمحض لك مودته وإن قصر، ولو لم يكن من فضيلة المشورة إلا أنك إن أصبت مستبداً سلبت فائدة الإصابة بألسنة الحسدة، وقال قائل: هذا اتفاق ولو فعل كذا لكان أحسن، وإذا شاورت فأصبت حمد الجماعة رأيك لأنهم لنفوسهم يحمدون، وإن أخطأت حمل الجماعة خطأك لأنهم عن أنفسهم يكافحون.

واعلم أن القول الغليظ يستمع لفضل عاقبته كما يتكاره شرب الدواء المر لفضل مغبته. وقال أعرابي: ما عثرت قط حتى عثر قومي. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم. وقيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم يا بني عبس! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، ونحن نطيعه فكأنا ألف حازم. وكان ابن أبي هبيرة أمير البصرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من صحبة من غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره. وفي حكم الهند: من التمس من الإخوان الرخصة عند المشورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ الرأي وازداد مرضاً وحمل الوزر. وقالت الحكماء: لا تشاور معلماً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء، ولا صاحب حاجة يريد قضاءها ولا خائفاً ولا من يرهقه أحد السبيلين.

وقالوا: لا رأي لحاقب ولا لحازق ولا لحاقن، ولا تشاور من لا توفيق عنده. الحازق: هو الذي ضغطه الخف الضيق والحاقب: هو الذي يجد في بطنه درأ. وقالوا من شكا إلى عاجز أعاره عجزه وأمده من جزعه. ومن لطيف ما جرى في الاستشارة أن زياداً بن عبيد الله الحارثي استشاره عبد الله بن عمر في أخيه أبي بكر أن يوليه القضاء، فأشار به فبعث إلى أبي بكر فامتنع عليه، فبعث زياد إلى عبيد الله يستعين به على أبي بكر، فقال أبو بكر لعبيد الله: أنشدك الله أترى لي القضاء؟ قال: اللهم لا. قال زياد: سبحان الله استشرتك فأشرت علي به ثم أسمعك تنهاه. فقال: أيها الأمير استشرتني فاجتهدت لك الرأي ونصحتك ونصحت للمسلمين، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته. وروي أن الحجاج بعث إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب له المهلب: إن من البلاء أن يكون الراعي لمن يملكه دون من يبصره.

<<  <   >  >>