للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فصل في النصيحة:

اعلموا أن النصح لمسلمين وللخلائق أجمعين من سنن المرسلين. قال الله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (هود: ٣٤)

وقال شعيب عليه السلام: ونصحت لكم فكيف آسي على قوم كافرين. وقال صالح عليه السلام: ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة! الدين النصيحة! الدين النصيحة! قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم. فالنصح في الجملة فعل الشيء الذي به الصلاح والأمانة، مأخوذ من النصاحة وهي السلوك التي يخاط بها وتصغيرها نصيحة، تقول العرب: هذا قميص منصوح أي مخيط. ونصحته نصحاً إذا خطته.

ويختلف النصح في الأشياء لاختلاف الأشياء. فالنصح لله: هو وصفه بما هو أهله، وتنزيهه عما ليس بأهل له عقداً وقولاً، والقيام بتعظيمه والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه والتباعد عن مساخطه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، والجهاد في رد العصاة إلى طاعته قولاً وفعلاً، وإرادة بث جميع ما ذكرناه في عباده، والنصيحة لكتابه: إقامته في التلاوة وتحسينه عند القراءة، وتفهم ما فيه واستعماله والذب عنه من تأويل المحرفين وطعن الطاعنين، وتعليم ما فيه للخلائق أجمعين؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (صّ: ٢٩)

والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: مؤازرته ونصرته، والحماية من دونه حياً وميتاً، وإحياء سنته بالطلب وإحياء طريقته ببث الدعوى، وتأليف الكلمة والتخلق يالأخلاق الطاهرة.

والنصيحة للأئمة: معاونتهم على ما تكلفوا القيام به في تنبيههم عند الغفلة وإرشادهم عند الهفوة، وتعليمهم عندما جهلوا وتحذيرهم ممن يريد السوء بهم، وإعلامهم بأخلاق عمالهم وسيرتهم في الرعية، وسد خلتهم عند الحاجة ونصرتهم في جمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم. والنصح لجماعة المسلمين: الشفقة عليهم وتوقير كبيرهم والرحمة لصغيرهم، وتفريج كربهم ودعوتهم إلى ما يسعدهم، وتوقي ما يشغل خواطرهم ويفتح باب الوسواس عليهم. ومن النصيحة للمسلمين: رفع مؤنة نفسه وبدنه وحوائجه عنهم. قال الأصمعي: لقط عمر بن الخطاب رضي الله عنه نواة من الطريق فأمسكها بيده حتى مر بدار قومٍ فألقاها في الدار وقال: يأكلها داجنهم.

والنصح لجميع الملل أن يحب إسلامهم، ويدعوهم إلى الإيمان بالقول ويحذرهم سوء مغبة الكفر، وبالسيف إن كان ذا سلطان، أو يكفوا عن قتال المسلمين فيكونوا ذمة، وإلا فالقتل نصحاً لله لإقامة أمره فيهم. روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث لا يضل عليهن قلب مسلم: العمل لله ومناصحة ولاة الأمر والاعتصام بجماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم. وروى جابر بن عبد الله: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني وبما استطعت والنصح لكل مسلم. وقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وقال أبو الدرداء: العلم يعلمه البر والفاجر والحكمة ينطق بها البر والفاجر، والنصيحة لله لا تثبت إلا في قلوب المنتخبين الذين صحت عقولهم وصدقت نياتهم.

واعلم أن جرعة النصيحة مرة لا يقبلها إلا أولو العزم. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي. وقال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: قل لي في وجهي

<<  <   >  >>