للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طاعة الله وصبرتم عن معاصي الله. قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (الكهف: ٢٨) ، أي احبس نفسك. فمن إمارات حسن التوفيق وعلامات السعادة الصبر في الملمات والرفق عند النوازل. وفيما يروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود من صبر علينا وصل إلينا. وقال سفيان: بلغنا أن لكل شيء ثمرة، وثمرة الصبر الظفر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: ٢٠٠) . فعلق الفلاح على الصبر والتقوى، يعني اصبروا على ما فرض الله عليكم وصابروا عدوكم. ورابطوا فيه قولان: قيل رابطوا على الجهاد، والثاني رابطوا على انتظار الصلوات، بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط! وقال الحسن في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة: ١٢٤) ، ابتلاه بالكواكب فصبر وبالقمر فصبر، وابتلاه بذبح ابنه فصبر. وقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ١٥٣) . فبدأ بالصبر قبل الصلاة ثم قال قولاً عظيماً، فجعل نفسه مع الصابرين دون المصلين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن

يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خير وأوسع من الصبر. وقال ابن مسعود: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً فقال رجلمن الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فشق عليه وتغير وجهه وغضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته، ثم قال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة تبكي على قبر فقال لها: اتق الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فلما انصرف قيل لها: هذا رسول الله. فجاءت إليه تعتذر أنها لم تعرفه وقالت: سأصبر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى. ويحتمل هذا الحديث وجهان: أما الطنافسي فقال معناه الصبر المحمود عند أول نزول المصيبة وقد فاتك بالجزع، وأما القابسي فقال: معناه أن الصدمة الأولى وقت أمرها النبي عليه السلام بالصبر، وكان هذا تعليماً لكل من فاته الصبر بذهول أو نسيان أو غلبة. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة.

وفي منثور الحكم: قالت الصحة أنا لاحقة بأرض المغرب. قال الجوع: وأنا معك. قال الإيمان: أنا لاحق بأرض الحجاز. قال الصبر: وأنا معك. قال الملك: أنا لاحق بأرض العراق. قالت الفتنة: وأنا معك. واعلم أن العجلة في الأمر خرق ومخرجها من قلة العقل، وأخرق من ذلك التفريط في الأمر بعد القدرة عليه. ومثال ذلك كالقدر على النار إن كان ماؤها قليلاً غلت بيسير من النار، وإن كانت مملوءة لم تغل حتى تكثر نارها وتطول مدتها. وفي كتاب جاويدان جرد، وليس للعجم كتاب مثله قال: يحرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث هن غير الحق: صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن عليه، وحماة أحبت كنة.

فصل:

واعلم أن الصبر على أقسام: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على ما ليس بكسب. فالصبر على المكتسب على قسمين: صبر على ما أمر الله تعالى به، وصبر على ما نهى الله تعالى عنه. أما الصبر على ما ليس بكسب صبر العبد على مقاساة ما يتصل به من حكم الله تعالى فيما له فيه مشقة. وينقسم

<<  <   >  >>