للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَوْلَى النَّاسِ بِعِلْمِ هَذَا لِمَوْضِعِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَكَرَامَتِهِ الَّتِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ النُّبُوَّةِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فَوَكَّلَهُمْ فِي غَيْبِهِمْ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَادَّعَى هَذَا عِلْمَهُ وَمِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِالْوَلَدِ وَقَوْلِهِ لِسَوْدَةِ «احْتَجِبِي مِنْهُ» عِنْدَمَا رَأَى شَبَهًا بَيِّنًا فَقَضَى بِالظَّاهِرِ وَهُوَ فِرَاشُ زَمْعَةَ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ وَالْفَيْءُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَقِيَاسًا عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْهِلًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُ فَهُوَ آخِذٌ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكُلُّهُمْ أَكْثَرُ حُرْمَةً مِنْ وَاحِدِهِمْ فَإِنَّمَا أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ وَمَتَى ظَفِرَ بِمَالِهِ أَوْ بِمَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْهِلًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): أَخْبَرَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» قَالَ يَزِيدُ فَحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَزْمٍ فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): وَمَعْنَى الِاجْتِهَادِ مِنْ الْحَاكِمِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا يَرِدُ الْقَضَاءُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا أَمْرٍ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ فَأَمَّا وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فَلَا. فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرُهُ الِاجْتِهَادُ؟ قِيلَ لَهُ أَقْرَبُ ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ كَيْف تَقْضِي؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّ رَسُولُ اللَّهِ» فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الِاجْتِهَادَ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ كِتَابُ اللَّهِ وَلَا سُنَّةُ رَسُولِهِ. وَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَمَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ إذَا اجْتَهَدَ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَيْسَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُحْدِثُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَكِتَابُ اللَّهِ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ نَفْسِهِ وَمَنْ قَالَ الِاجْتِهَادُ أَوْلَى خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِرَأْيِهِ ثُمَّ هُوَ مِثْلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي مَنْ شَهِدَ مَكَّةَ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ الْبَيْتِ بِالْمُعَايَنَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ غَيْرُ مُعَايَنَتِهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ عَلَى غَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ " وَقَالَ مُعَاذٌ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَرَضِيَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اجْتَهَدَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ قِيلَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فَجَعَلَ النَّاسَ تَبَعًا لَهُمَا ثُمَّ لَمْ يُهْمِلْهُمْ وَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَلِقَوْلِهِ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فَفَرَضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ رَسُولِهِ فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا مُخَالِفَ فِيهِمَا وَهُمَا عَيْنَانِ ثُمَّ قَالَ " إذَا اجْتَهَدَ " فَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُحْدِثُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِاتِّبَاعِ نَفْسِهِ إنَّمَا أُمِرَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ فَإِحْدَاثُهُ عَلَى الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ إحْدَاثِهِ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَهُوَ رَأْيُ نَفَسِهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِاتِّبَاعِهِ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ نَفْسَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ غَيْرَهُ وَالِاجْتِهَادُ شَيْءٌ يُحْدِثُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَالِاسْتِحْسَانُ يَدْخُلُ عَلَى قَائِلِهِ كَمَا يَدْخُلُ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ عَلَى غَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَمَنْ قَالَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا لِأَنَّهُ وَضَعَ نَفْسَهُ فِي رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ عَلَى غَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ مَوْضِعَهُمَا فِي أَنْ يَتَّبِعَ رَأْيَهُ كَمَا اتَّبَعَا. وَفِي أَنَّ رَأْيَهُ أَصْلٌ ثَالِثٌ أُمِرَ النَّاسُ بِاتِّبَاعِهِ وَهَذَا خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>