للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَخِفُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْأَةَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا إذْ أَسْلَمَ وَهُوَ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْفَرْضَ إذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا بِغَيْرِهِ، إذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَالْمَيِّتُ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ الْحَجُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى هَذَا الَّذِي لَوْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ بِحَالٍ أَجْزَأَهُ، وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ فِيهِ تَكَلُّفٌ أَبَدًا.

بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ فِيهَا الرَّجُلُ عَنْ غَيْرِهِ

(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ أَنْ يَحُجَّ الْمَرْءُ عَنْ غَيْرِهِ فَاحْتَمَلَ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ فَرْضَيْنِ، أَحَدُهُمَا فَرْضٌ عَلَى الْبَدَنِ، وَالْآخَرُ فَرْضٌ فِي الْمَالِ، فَلَمَّا كَانَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْأَبَدَانِ عَلَيْهَا لَا يَتَجَاوَزُهَا، مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُصْرَفُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ، وَكَانَ الْمَرِيضُ يُصَلِّي كَمَا رَأَى، وَيَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ، وَتَحِيضُ الْمَرْأَةُ فَيَرْتَفِعُ عَنْهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الْغَلَبَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَالْحَيْضِ، وَلَا يُجْزِي الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ صَلَاةٌ صَلَّاهَا وَهُوَ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ لَا تُجْزِيهَا صَلَاةٌ صَلَّتْهَا وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصَلِّيَ عَنْهُمَا غَيْرُهُمَا فِي حَالِهِمَا تِلْكَ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْءَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، كَانَ هَذَا كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتِهِ، وَكُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى الْمَرْءِ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَكَانَ مَا سِوَى هَذَا مِنْ حَجِّ تَطَوُّعٍ أَوْ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحُجَّهُ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَعْتَمِرَ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا، كَانَ وَجْهًا مُحْتَمَلًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: لَوْ أَوْصَى رَجُلًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ تَطَوُّعًا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَنْهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: إنْ حَجَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بِوَصِيَّةٍ فَهِيَ فِي ثُلُثِهِ وَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ فَاسِدَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيمَا أُخِذَ مِنْ الْإِجَارَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدًا مِنْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ وَيَرُدُّ الْفَضْلَ مِمَّا أَخَذَ عَلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ نَقَصَهُ كَمَا يَقُولُ فِي كُلِّ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، وَالْآخَرُ أَنْ لَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَمَرَ الْمَرْءَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْوَاجِبِ، دَلَّ هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ عَلَى الْأَبَدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَا لَا يَعْمَلُهُ الْمَرْءُ عَنْ غَيْرِهِ، مِثْلُ الصَّلَاةِ، وَلَا يَحْمِلُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ مِثْلُ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَالْآخَرُ النُّسُكُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَكُونُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَعْمَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ مُتَطَوِّعًا عَنْهُ أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِ إذَا صَارَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْحَجِّ، وَلَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ، وَالْمُتَطَوِّعُ عَنْهُ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَالَ الَّتِي أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ هِيَ الْحَالُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَطَوَّعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ لَوْ تَطَوَّعَ عَنْ نَفْسِهِ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَتَطَوَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَهَبَ عَطَاءٌ مَذْهَبًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يُجْزِي عَنْهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ بِكُلِّ نُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إنْ عَمِلَهُمَا مُطِيقًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مُطِيقٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى عَطَاءٍ قَالَ: رُبَّمَا أَمَرَنِي عَطَاءٌ أَنْ أَطُوفَ عَنْهُ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الطَّوَافَ مِنْ النُّسُكِ وَأَنَّهُ يُجْزِي أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ عَنْ غَيْرِهِ فِي أَيِّ حَالٍ مَا كَانَ، وَلَيْسَ نَقُولُ بِهَذَا، وَقَوْلُنَا لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَالْمَعْمُولُ عَنْهُ غَيْرُ مُطِيقٍ الْعَمَلَ، بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى أَنْ يُطِيقَ بِحَالٍ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، لِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>