للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُنْظَرَ إلَى الْوَصَايَا، فَإِذَا كَانَتْ لِمَنْ يَرِثُ الْمَيِّتَ أَبْطَلْتهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِمَنْ لَا يَرِثُهُ أَجَزْتهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَجُوزُ بِهِ وَمَوْجُودٌ عِنْدِي - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - فِيمَا وَصَفْت مِنْ الْكِتَابِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَيْثُ إنَّ مَا لَمْ نَعْلَمْ مَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا لِئَلَّا يَأْخُذُوا مَالَ الْمَيِّتِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا تَرَكَ الْمُتَوَفَّى يُؤْخَذُ بِمِيرَاثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ لِوَاحِدٍ الْحُكْمَانِ الْمُخْتَلِفَانِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالشَّيْءِ وَضِدِّ الشَّيْءِ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَعْنًى غَيْرَهُ فَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى أَنْ يَقُولَ إنَّمَا لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ مِنْ قِبَلِ تُهْمَةِ الْمُوصِي لَأَنْ يَكُونَ يُحَابِي وَارِثَهُ بِبَعْضِ مَالِهِ.

فَلَوْلَا أَنَّ الْعَنَاءَ مُسْتَعْلٍ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَتَعَاطَى الْفِقْهَ مَا كَانَ فِيمَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَب عِنْدِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِلْجَوَابِ مَوْضِعٌ؛ لِأَنَّ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا حَتَّى لَا يَتَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهِ كَانَ شَبِيهًا أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّ الشَّيْءِ فَإِنْ قَالَ: قَائِلٌ فَأَيْنَ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَأَيْت امْرَأً مِنْ الْعَرَبِ عَصَبَتُهُ يَلْقَوْنَهُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ أَبًا قَدْ قَتَلَ آبَاءَ عَصَبَتِهِ آبَاءَهُ وَقَتَلَهُمْ آبَاؤُهُ وَبَلَغُوا غَايَةَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ بتسافك الدِّمَاءِ وَانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَالْقَطِيعَةِ وَالنَّفْيِ مِنْ الْأَنْسَابِ فِي الْأَشْعَارِ وَغَيْرِهَا وَمَا كَانَ هُوَ يَصْطَفِي مَا صُنِعَ بِآبَائِهِ وَيُعَادِي عَصَبَتُهُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْعَدَاوَةِ وَيَبْذُلُ مَالَهُ فِي أَنْ يَسْفِكَ دِمَاءَهُمْ وَكَانَ مِنْ عَصَبَتِهِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ مَنْ قَتَلَ أَبَوَيْهِ فَأَوْصَى مِنْ مَرَضِهِ لِهَؤُلَاءِ الْقَتَلَةِ وَهُمْ وَرَثَتُهُ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ عَصَبَتِهِ كَانَ الْوَارِثُ مَعَهُمْ فِي حَالِ عَدَاوَتِهِمْ، أَوْ كَانَ لَهُ سِلْمًا بِهِ بَرًّا وَلَهُ وَاصِلًا، وَكَذَلِكَ كَانَ آبَاؤُهُمَا أَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِأَعْدَائِهِ، وَهُوَ لَا يُتَّهَمُ فِيهِمْ؟.

فَإِنْ قَالَ: لَا قِيلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ الْمَوَالِي فَكَانَ مَوَالِيهِ قَدْ بَلَغُوا بِآبَائِهِ مَا بَلَغَ بِهِمْ وَبِأَبِيهِمْ مَا وَصَفْت مِنْ حَالِ الْقُرْبَى فَأَوْصَى لِوَرَثَتِهِ مِنْ مَوَالِيهِ وَمَعَهُمْ ابْنَتُهُ أَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ، وَهُوَ لَا يُتَّهَمُ فِيهِمْ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا. قِيلَ: وَهَكَذَا زَوْجَتُهُ لَوْ كَانَتْ نَاشِزَةً مِنْهُ عَاصِيَةً لَهُ عَظِيمَةَ الْبُهْتَانِ وَتَرْمِيه بِالْقَذْفِ قَدْ سَقَتْهُ سُمًّا لِتَقْتُلَهُ وَضَرَبَتْهُ بِالْحَدِيدِ لِتَقْتُلَهُ فَأَفْلَتَ مِنْ ذَلِكَ وَبَقِيَتْ مُمْتَنِعَةً مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْ فِرَاقِهَا إضْرَارًا لَهَا، ثُمَّ مَاتَ فَأَوْصَى لَهَا لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهَا وَارِثٌ.

فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ: قِيلَ.

وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا مَاتَ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ أَعْظَمَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا وَتَتَابَعَ إحْسَانُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِمَوَدَّتِهِ فَأَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ أَيَجُوزُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: وَهَكَذَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ.

وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَعْدَاءً لَهُ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ كَانَ وَرَثَتُهُ أَعْدَاءً لَهُ، أَوْ غَيْرَ أَعْدَاءٍ. قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ لِلْوَارِثِ وَأَنَّهُ إذَا خَصَّ بِإِبْطَالِ وَصِيَّتِهِ الْوَارِثَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْنًى إلَّا مَا قُلْنَا.

، ثُمَّ كَانَ الْأَصْلُ الَّذِي وَصَفْت لَمْ يَسْبِقْك إلَيْهِ أَحَدٌ يَعْقِلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ شَيْئًا عَلِمْنَاهُ أَمَا كُنْت تَرَكْته؟ أَوْ مَا كَانَ يَلْزَمُك أَنْ تَزْعُمَ أَنَّك تَنْظُرُ إلَى وَصِيَّتِهِ أَبَدًا فَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ لِرَجُلٍ عَدُوٍّ لَهُ أَوْ بَغِيضٍ إلَيْهِ، أَوْ غَيْرِ صِدِّيقٍ أَجَزْتهَا، وَإِنْ كَانَ وَارِثًا، وَإِنْ كَانَتْ لَصَدِيقٍ لَهُ، أَوْ لِذِي يَدٍ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ عَدُوٍّ فَأَبْطَلْتهَا، وَإِذَا فَعَلْت هَذَا خَرَجْت مِمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِمَّا يَدْخُلُ فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلِمْنَاهُ، أَوَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَوْثَقُهُ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهُ يُعْرَفُ بِتَوْلِيجِ مَالِهِ إلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ وَلَدَ وَلَدٍ دُونَ وَلَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهُ فَصَارَ وَارِثُهُ عَدُوًّا لَهُ فَأَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي وَصِيَّتِهِ أَلَيْسَ يَلْزَمُك أَنْ لَا تُجِيزَ الْعِتْقَ لِشَأْنِ تُهْمَتِهِ فِيهِ حَيًّا إذْ كَانَ يُؤْثِرُهُ بِمَالِهِ عَلَى وَلَدِ نَفْسِهِ وَمَيِّتًا إذْ كَانَ عِنْدَهُ بِتِلْكَ الْحَالِ وَكَانَ الْوَارِثُ لَهُ عَدُوًّا؟ أَوْ رَأَيْت لَوْ كَانَ وَارِثُهُ لَهُ عَدُوًّا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَدَعَ الْوَصِيَّةَ فَيَكُونَ الْمِيرَاثُ وَافِرًا عَلَيْك إلَّا حُبَّ أَنْ يُفْقِرَك اللَّهُ، وَلَا يُغْنِيَك.

وَلَكِنِّي أُوصِي بِثُلُثِ مَالِي لِغَيْرِك فَأَوْصَى لِغَيْرِهِ أَلَيْسَ إنْ أَجَازَ هَذَا أَجَازَ مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>