للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الرَّابِعِ. وَمِنْهَا وَهُوَ ثَامِنُهَا أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، فَلَيْسَ التَّهْدِيدُ لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ الِاعْتِنَاءِ بِتَأْدِيبِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَةَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ، وَبِأَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ وَعَنْ عُقُوبَتِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِطَوِيَّتِهِمْ وَقَدْ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَتَعَقَّبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ هَذَا التَّعْقِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ادَّعَى أَنَّ تَرْكَ مُعَاقَبَةِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فَلَيْسَ فِي إِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ عُقُوبَتِهِمْ. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ لِقَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ الْحَدِيثَ، وَلِقَوْلِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ إِلَخْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَائِقٌ بِالْمُنَافِقِينَ لَا بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ، لَكِنِ الْمُرَادُ بِهِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقُ الْكُفْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمِيعِ وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ لَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةَ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَهُمْ نِفَاقُ مَعْصِيَةٍ لَا كُفْرٍ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، إِنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَإِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ.

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ: لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، لِأَنَّ تَحْرِيقَ بَيْتِ الْكَافِرِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى الْغَلَبَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُودُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي بَيْتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنِّفَاقِ فِي الْحَدِيثِ نِفَاقَ الْكُفْرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: خُرُوجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ جَازَ لَهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ بَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِين، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا مُنَافِقٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنِي عُمُومَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا يَشْهَدُهُمَا مُنَافِقٌ، يَعْنِي الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. وَلَا يُقَالُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ قَدْ يَتَخَلَّفُ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ تَخَلَّفَ، لِأَنِّي أَقُولُ بَلْ هَذَا يُقَوِّي مَا ظَهَرَ لِي أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّفَاقِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقَ الْكُفْرِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لَا الْعَاصِي الَّذِي يَجُوزُ إِطْلَاقُ النِّفَاقِ عَلَيْهِ مَجَازًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْهَا وَهُوَ تَاسِعُهَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ سَدِّ بَابِ التَّخَلُّفِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ نُسِخَ حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَقَوَّى بِثُبُوتِ نَسْخِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّهمْ، وَهُوَ التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ، كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَكَذَا ثُبُوتُ نَسْخِ مَا يَتَضَمَّنُهُ التَّحْرِيقُ مِنْ جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَفْضِيلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْجَوَازُ.

وَمِنْهَا وَهُوَ عَاشِرُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَةُ لَا بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَنَصَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْعِشَاءِ، وَفِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الَّتِي وَقَعَ التَّهْدِيدُ بِسَبَبِهَا، هَلْ هِيَ الْجُمُعَةُ أَوِ الْعِشَاءُ، أَوِ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ مَعًا؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ وَإِلَّا وَقَفَ الِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ تَعَيَّنَ كَوْنُهَا غَيْرَ الْجُمُعَةِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ قَالَ: فَلْيُتَأَمَّلِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ