للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يَكُونَ مَحَلُّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكُلِّ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي ادَّعَاهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَحَلِّ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، فَكَمَا أَنَّ لِلسُّجُودِ ذِكْرًا مَخْصُوصًا وَمَعَ ذَلِكَ أُمِرَ فِيهِ بِالدُّعَاءِ، فَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لَهُ ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ وَأُمِرَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ بِالدُّعَاءِ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ تَرْتِيبُ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الذِّكْرِ، وَلَوْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ تَرْتِيبِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَالْحَدِيثِ مُنَافَاةٌ، لِأَنَّ قَبْلَ السَّلَامِ يَصْدُقُ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَسَأَذْكُرُ كَلَامَهُ آخِرَ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - وَهُوَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ -: هَذَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَعْينِ مَحَلِّهِ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ مَوْطِنَيْنِ - السُّجُودِ أَوِ التَّشَهُّدِ - لِأَنَّهُمَا أُمِرَ فِيهِمَا بِالدُّعَاءِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ مِنْ تَعْيِينِهِ بِهَذَا الْمَحَلِّ، فَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ التَّشَهُّدِ ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. ثُمَّ قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَلِمَاتٍ يُعَظِّمُهُنَّ جِدًّا. قُلْتُ: فِي الْمَثْنَى (١) كِلَيْهِمَا؟ قَالَ بَلْ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الْحَدِيثُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

هَذِهِ رِوَايَةُ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِلَفْظِ: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَذَكَرَهُ، وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، فَهَذَا فِيهِ تَعْيِينُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّشَهُّدِ، فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ. وَمَا وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ يَكُونُ بَعْدَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَقَبْلَ السَّلَامِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْفِتْنَةُ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْعُرْفِ لِكَشْفِ مَا يُكْرَهُ اهـ. وَتُطْلَقُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَسِيحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ يُطْلَقُ عَلَى الدَّجَّالِ وَعَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﵇، لَكِنْ إِذَا أُرِيدَ الدَّجَّالُ قُيِّدَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: الْمَسِيحُ مُثَقَّلٌ الدَّجَّالُ وَمُخَفَّفٌ عِيسَى، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا مَا نَقَلَ الْفَرَبْرِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ عَنْهُ عَنْ خَلَفِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ الْهَمْدَانِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ أَنَّ الْمَسِيحَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَاحِدٌ، يُقَالُ لِلدَّجَّالِ وَيُقَالُ لِعِيسَى وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِمَعْنَى لَا اخْتِصَاصَ لِأَحَدِهِمَا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ رَأْيٌ ثَالِثٌ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ قَالَهُ بِالتَّخْفِيفِ فَلِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَمَنْ قَالَهُ بِالتَّشْدِيدِ فَلِكَوْنِهِ مَمْسُوحَ الْعَيْنِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي الدَّجَّالِ وَنُسِبَ قَائِلُهُ إِلَى التَّصْحِيفِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَلْقِيبِ الدَّجَّالِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، وَقِيلَ لِأَنَّ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ خُلِقَ مَمْسُوحًا لَا عَيْنَ فِيهِ وَلَا حَاجِبَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ إِذَا خَرَجَ. وَأَمَّا عِيسَى فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ زَكَرِيَّا مَسَحَهُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الْأَرْضَ بِسِيَاحَتِهِ، وَقِيلَ لِأَنَّ رِجْلَهُ كَانَتْ لَا أَخْمُصَ لَهَا، وَقِيلَ لِلُبْسِهِ الْمُسُوحَ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَاشِيخَا فَعُرِّبَ الْمَسِيحَ، وَقِيلَ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ ذِكْرُ قَائِلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ صَاحِبُ الْقَامُوسِ أَنَّهُ جَمَعَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ عِيسَى بِذَلِكَ خَمْسِينَ قَوْلًا أَوْرَدَهَا فِي


(١) ليله: في الاثنين