للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ: إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ. وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ أَوَّلُ مَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ هَذَا التَّحْمِيدَ بَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ قَالَ بَعْدَ مَا يُكَبِّرُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ مَبِيتِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَفِي آخِرِهِ: وَكَانَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، الْحَدِيثَ. وَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَذْكُورَةِ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّوْحِيدِ، قَالَ قَتَادَةُ: الْقَيَّامُ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُنَوِّرُهُمَا، وَبِكَ يَهْتَدِي مَنْ فِيهِمَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْتَ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُنَوَّرٌ؛ أَيْ: مُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَيُقَالُ: هُوَ اسْمُ مَدْحٍ؛ تَقُولُ: فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ؛ أَيْ: مُزَيِّنُهُ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ: (لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ) وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالسِّيَاقِ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ الْحَقُّ)؛ أَيِ: الْمُتَحَقِّقُ الْوُجُودِ، الثَّابِتُ بِلَا شَكٍّ فِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْوَصْفُ لَهُ ﷾ بِالْحَقِيقَةِ خَاصٌّ بِهِ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، إِذْ وُجُودُهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْتَ الْحَقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهُ إِلَهٌ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ سَمَّاكَ إِلَهًا فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ.

قَوْلُهُ: (وَوَعْدُكَ الْحَقُّ) أَيِ: الثَّابِتُ، وَعَرَّفَهُ وَنَكَّرَ مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ وَعْدَهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْجَازِ دُونَ وَعْدِ غَيْرِهِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْبَوَاقِي لِلتَّعْظِيمِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (١).

وَاللِّقَاءُ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعْدِ، لَكِنَّ الْوَعْدَ مَصْدَرٌ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ كَمَا أَنَّ ذِكْرُ الْقَوْلِ بَعْدَ الْوَعْدِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. .

قَوْلُهُ: (وَلِقَاؤُكَ الحَقٌّ) فِيهِ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَآلِ الْخَلْقِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: مَعْنَى (لِقَاؤُكَ حَقٌّ) أَيِ: الْمَوْتُ، وَأَبْطَلَهُ النَّوَوِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُكَ حَقٌّ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمَا مَوْجُودَتَانِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدٌ ﷺ حَقٌّ) خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَعَطَفَهُ عَلَى النَّبِيِّينَ إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ بِأَنَّهُ فَائِقٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ، وَجَرَّدَهُ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ، كَمَا فِي التَّشَهُّدِ.

قَوْلُهُ: (وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَصْلُ السَّاعَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَقِّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ كَوْنِهَا، وَأَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُصَدِّقَ بِهَا. وَتَكْرَارُ لَفْظِ حَقٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ) أَيِ: انْقَدْتُ وَخَضَعْتُ، (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ: صَدَّقْتُ، (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أَيْ: فَوَّضْتُ الْأَمْرَ إِلَيْكَ تَارِكًا لِلنَّظَرِ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ (٢). (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ إِلَيْكَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِي.

قَوْلُهُ: (وَبِكَ خَاصَمْتُ) أَيْ: بِمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْبُرْهَانِ، وَبِمَا لَقَّنْتَنِي مِنَ الْحُجَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) أَيْ: كُلُّ مَنْ جَحَدَ الْحَقَّ حَاكَمْتُهُ إِلَيْكَ، جَعَلْتُكَ الْحَكَمَ بَيْنَنَا، لَا مَنْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ كَاهِنٍ وَنَحْوِهِ. وَقَدَّمَ مَجْمُوعَ صِلَاتِ


(١) في مخطوطة الرياض: القرطبي
(٢) ليس هذا التفسير بجيد. الصواب في تفسير التوكل عند أهل التحقيق أنه الاعتماد على الله والثقة به، والإيمان بأنه مقدر الأشياء ومدبر الأمور كلها، مع النظر في الأسباب العادية من العبد وقيامه بها. فالتوكل مركب من شيئين: أحدهما الاعتماد على الله والثقة به التفويض إليه لكونه قد علم الأشياء وقدرها وله القدرة الشاملة والمشيئة النافذة. والثاني النظر من العبد في الأسباب الدينية وقيامه بها. والله أعلم.