للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِ لَيْلَتَيْنِ، وَكَذَا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَامَ، حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ بِنَا تَجَوَّزَ، ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ. الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَدَمَ خُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ كَانَ لِهَذِهِ الْخَشْيَةِ، لَا لِكَوْنِ الْمَسْجِدِ امْتَلَأَ وَضَاقَ عَنِ الْمُصَلِّينَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)؛ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةِ قُبَيْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ: خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: فَتَعْجِزُوا عَنْهَا؛ أَيْ تَشُقَّ عَلَيْكُمْ، فَتَتْرُكُوهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَجْزَ الْكُلِّيَّ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ مِنْ أَصْلِهِ، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ ﷺ تَوَقَّعَ تَرَتُّبَ افْتِرَاضِ الصَّلَاةِ بِالَلِيلِ جَمَاعَةً عَلَى وُجُودِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا، وَفِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ، وَقَدْ بَنَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَجَابَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ ﷿ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّكَ إِنْ وَاظَبْتَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَهُمُ افْتَرَضْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَأَحَبَّ التَّخْفِيفَ عَنْهُمْ، فَتَرَكَ الْمُوَاظَبَةَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ، كَمَا اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْقُرَبِ الَّتِي دَاوَمَ عَلَيْهَا فَافْتُرِضَتْ، وَقِيلَ: خَشِيَ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ نَحَا الْقُرْطُبِيُّ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: فَتُفْرَضَ عَلَيْكُمْ؛ أَيْ: تَظُنُّونَهُ فَرْضًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ، كَمَا إِذَا ظَنَّ الْمُجْتَهِدُ حِلَّ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ. قَالَ: وَقِيلَ: كَانَ حُكْمُ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ إِذَا وَاظَبَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِ فِيهِ، أَنَّهُ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ. انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى بُعْدَ هَذَا الْأَخِيرِ، فَقَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ، وَتَابَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ تُفْرَضْ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنْهُ ﷺ لَمَّا كَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضًا عَلَيْهِ دُونَ أُمَّتِهِ، فَخَشِيَ إِنْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَالْتَزَمُوا مَعَهُ قِيَامَ اللَّيْلِ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ أُمَّتِهِ فِي الْعِبَادَةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَشِيَ مِنْ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَيْهَا أَنْ يَضْعُفُوا عَنْهَا، فَيَعْصِيَ مَنْ تَرَكَهَا بِتَرْكِ اتِّبَاعِهِ ﷺ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْخَطَّابِيُّ أَصْلَ هَذِهِ الْخَشْيَةِ، مَعَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: هُنَّ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَإِذَا أُمِنَ التَّبْدِيلُ، فَكَيْفَ يَقَع الْخَوْفُ مِنَ الزِّيَادَةِ؟ وَهَذَا يُدْفَعُ فِي صُدُورِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ ﷺ، وَأَفْعَالُهُ الشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا - يَعْنِي عِنْدَ الْمُوَاظَبَةِ - فَتَرَكَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَا مِنْ طَرِيقِ إِنْشَاءِ فَرْضٍ جَدِيدٍ زَائِدٍ عَلَى الْخَمْسِ، وَهَذَا كَمَا يُوجِبُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ صَلَاةَ نَذْرٍ فَتَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةُ فَرْضٍ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ.

قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ خَمْسِينَ، ثُمَّ حَطَّ مُعْظَمَهَا بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَإِذَا عَادَتِ الْأُمَّةُ فِيمَا اسْتَوْهَبَ لَهَا، وَالْتَزَمَتْ مَا اسْتَعْفَى لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ﷺ مِنْهُ لَمْ يُسْتَنْكَرْ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ، كَمَا الْتَزَمَ نَاسٌ الرَّهْبَانِيَّةَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّقْصِيرَ فِيهَا، فَقَالَ: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾، فَخَشِيَ ﷺ أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُمْ سَبِيلَ أُولَئِكَ، فَقَطَعَ الْعَمَلَ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَلَقَّى هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ مِنَ الْخَطَّابِيِّ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ كَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ﷺ، وَعَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ. وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ نِزَاعٌ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾؛ الْأَمْنُ مِنْ نَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْخَمْسِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلزِّيَادَةِ. انْتَهَى. لَكِنْ فِي ذِكْرِ التَّضْعِيفِ بِقَوْلِهِ: هُنَّ خَمْسٌ، وَهُنَّ خَمْسُونَ؛ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ