للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَالَتْ: قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ) أَيِ السَّرِيرِ (قَدِّمُونِي) أَيْ: إِنْ كَانَ صَالِحًا. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ قَبْلَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجِنَازَةِ نَفْسُ الْمَيِّتِ، وَبِوَضْعِهِ جَعْلُهُ فِي السَّرِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ السَّرِيرَ، وَالْمُرَادُ: وَضْعُهَا عَلَى الْكَتِفِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ. . . . فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَيِّتُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: إِذَا وُضِعَ الْمُؤْمِنُ عَلَى سَرِيرِهِ يَقُولُ: قَدِّمُونِي. الْحَدِيثَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الْجَسَدُ الْمَحْمُولُ عَلَى الْأَعْنَاقِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ الرُّوحُ، وَرَدَّهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ الرُّوحَ إِلَى الْجَسَدِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي بُشْرَى الْمُؤْمِنِ وَبُؤْسِ الْكَافِرِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ، وَزَادَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْحَالُ بَعْدَ إِدْخَالِ الْقَبْرِ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ. قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى إِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ قَبْلَ الدَّفْنِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ النُّطْقَ فِي الْمَيِّتِ إِذَا شَاءَ. وَكَلَامُ ابْنِ بَطَّالٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَصْوَبُ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ. قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْقَالِ لَا بِلِسَانِ الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: غَيْرَ صَالِحَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ لِأَهْلِهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لِأَجْلِ أَهْلِهَا إِظْهَارًا لِوُقُوعِهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ دَعَا بِالْوَيْلِ. وَمَعْنَى النِّدَاءِ: يَا حُزْنِي. وَأَضَافَ الْوَيْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضِيفَ الْوَيْلَ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَأَنَّهُ لَمَّا أَبْصَرَ نَفْسَهُ غَيْرَ صَالِحَةٍ نَفَرَ عَنْهَا، وَجَعَلَهَا كَأَنَّهَا غَيْرُهُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ: يَا وَيْلَتَاهُ، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (لَصَعِقَ) أَيْ لَغُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَسْمَعُهُ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْتِ، وَالضَّمِيرُ فِي (يَسْمَعُهُ) رَاجِعٌ إِلَى دُعَائِهِ بِالْوَيْلِ؛ أَيْ يَصِيحُ بِصَوْتٍ مُنْكَرٍ، لَوْ سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ لَغُشِيَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَيِّتِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، وَأَمَّا الصَّالِحُ فَمِنْ شَأْنِهِ اللُّطْفُ وَالرِّفْقُ فِي كَلَامِهِ، فَلَا يُنَاسِبُ الصَّعْقُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْصُلَ الصَّعْقُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الصَّالِحِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْلُوفٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْأَهْوَالِ بِلَفْظِ: لَوْ سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ مِنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّعْقِ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الصَّالِحِ أَيْضًا، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا مَعَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ: فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً فَيُصْعَقُ صَعْقَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ. وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْمَيِّتُ وَالصَّعْقُ، وَالْأَوَّلُ اسْتُثْنِيَ فِيهِ الْإِنْسُ فَقَطْ، وَالثَّانِي اسْتُثْنِيَ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْمَيِّتِ بِمَا ذُكِرَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الصَّعْقِ - وَهُوَ الْفَزَعُ - إِلَّا مِنَ الْآدَمِيِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَأْلَفْ سَمَاعَ كَلَامِ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِ الْجِنِّ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الصَّيْحَةُ الَّتِي يَصِيحُهَا الْمَضْرُوبُ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا، لِكَوْنِ سَبَبِهَا عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فَاشْتَرَكَ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْمَيِّتِ يَسْمَعُهُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ، لَكِنْ قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنَّ الْمَعْنَى: يَسْمَعهُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ رُوحٌ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُ الرُّوحَ مَنْ هُوَ رُوحٌ مِثْلُهُ. وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، بَلْ لَا يُسْتَثْنَى إِلَّا الْإِنْسَانُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا اخْتُصَّ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَيْهِ،