للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَقَالَ: إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ مُخَالَفَةٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَفِي الْأُولَى أَنَّهُ أَقَرَّهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ: هُمَا قِصَّتَانِ، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ قَوْلَ الْيَهُودِيَّةِ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ أُعْلِمَ النَّبِيُّ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْ عَائِشَةَ، فَجَاءَتِ الْيَهُودِيَّةُ مَرَّةً أُخْرَى فَذَكَرَتْ لَهَا ذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهَا مُسْتَنِدَةً إِلَى الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ، فَأَعْلَمَهَا النَّبِيُّ بِأَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِإِثْبَاتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ سِرًّا، فَلَمَّا رَأَى اسْتِغْرَابَ عَائِشَةَ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ أَعْلَنَ بِهِ. انْتَهَى.

وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلَهَا، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ : أَتُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَكِبَ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَفِي هَذَا مُوَافَقَةٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِذَلِكَ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَخْدُمُهَا، فَلَا تَصْنَعُ عَائِشَةُ إِلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ إِلَّا قَالَتْ لَهَا الْيَهُودِيَّةُ: وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِلْقَبْرِ عَذَابٌ؟ قَالَ: كَذَبَتْ يَهُودُ، لَا عَذَابَ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ نِصْفَ النَّهَارِ وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ. وَفِي هَذَا كُلُّهُ أَنَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ بِحُكْمِ عَذَابِ الْقَبْرِ إِذْ هُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَارِيخُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي مَوْضِعِهِ.

وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الْأُخْرَى الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ وَالْجَوَابُ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأُولَى بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ بِالْمَنْطُوقِ فِي الْأُخْرَى فِي حَقِّ آلِ فِرْعَوْنَ، وَإِنِ الْتَحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ لَهُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَالَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ إِنَّمَا هُوَ وُقُوعُ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى الْمُوَحِّدِينَ، ثُمَّ أُعْلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَجَزَمَ بِهِ، وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَبَالَغَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ وَإِرْشَادًا، فَانْتَفَى التَّعَارُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ، فَفِيهَا اخْتِلَافٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ آخِرَ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: حَقٌّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ عَقِبَ هَذِهِ الطَّرِيقِ: زَادَ غُنْدَرٌ: عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ: حَقٌّ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ عَبْدَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقَ غُنْدَرٍ، النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ قَوْلُهُ: زَادَ غُنْدَرٌ إِلَخْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غَلَطٌ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا بِلَفْظِ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يُفْتَتَنُ فِيهَا الْمَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ سَاقَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ، فَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ ضَجَّةً: حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَفْهَمَ آخِرَ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَلَمَّا سَكَتَ