للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا أَنْ تَنْهَى بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا عَنْكَ. قَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ. وَقَوْلُهُ (وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً، فَيَكُونَ نَهَى عَنِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مَعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا، وَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى الْقِرَانِ تَمَتُّعًا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَارِنَ يَتَمَتَّعُ بِتَرْكِ النَّصَبِ بِالسَّفَرِ مَرَّتَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا قِرَانًا أَوِ إِيقَاعًا لَهُمَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِلَفْظِ: نَهَى عُثْمَانُ عَنِ التَّمَتُّعِ. وَزَادَ فِيهِ: فَلَبَّى عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ بِالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَنْهَهُمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَمَتَّعَ؟ قَالَ: بَلَى. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا. زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَقِيقَةُ تَمَتُّعٍ، إِنَّمَا كَانَ عُمْرَةً وَحْدَهَا.

قُلْتُ: هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ؛ فَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ - وَهُمَا أَعْلَمُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ - فَلَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَالتَّمَتُّعُ إِنَّمَا كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: كُنَّا آمَنَ مَا يَكُونُ النَّاسِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: خَائِفِينَ؛ أَيْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ مَنْ أَفْرَدَ أَعْظَمَ مِنْ أَجْرِ مَنْ تَمَتَّعَ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اخْتِيَارِهِ ﷺ فَسْخُ (١) إِلَى الْعُمْرَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَفَعَ اعْتِقَادَ قُرَيْشٍ مَنْعَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّ إِحْرَامَهُمْ بِالْعُمْرَةِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُنَاكَ يَصِحُّ إِطْلَاقُ كَوْنِهِمْ خَائِفِينَ، أَيْ مِنْ وُقُوعِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ صَدُّوهُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ فَتَحَلَّلُوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ، وَكَانَتْ أَوَّلَ عُمْرَةٍ وَقَعَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ جَاءَتْ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا، ثُمَّ أَرَادَ ﷺ تَأكدَ ذَلِكَ بِالْمُبَالَغَةِ فِيهِ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا كُنْتُ لِأَدَعَ. . . إِلَخْ) زَادَ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَقَالَ عُثْمَانُ: تَرَانِي أَنْهَى النَّاسَ وَأَنْتَ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَدَعُ. وَفِي قِصَّةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِنَ الْفَوَائِدِ إِشَاعَةُ الْعَالِمِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَإِظْهَارُهُ، وَمُنَاظَرَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ فِي تَحْقِيقِهِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ لِقَصْدِ مُنَاصَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَوْلِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ النَّصِّ، لِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ جَائِزَانِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا لِيُعْمَلَ بِالْأَفْضَلِ كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ، لَكِنْ خَشِيَ عَلِيٌّ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرُهُ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَأَشَاعَ جَوَازَ ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ حَدِيثَ عُثْمَانَ فِي التَّمَتُّعِ دَلِيلًا لِمَسْأَلَةِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي بَعْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: ثُمَّ صَارَ إِجْمَاعًا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَهْيَ عُثْمَانَ عَنِ الْمُتْعَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الْحَجِّ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُخَالِفُونَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُخَالِفُونَ فِيهِ، ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ السَّابِقَةَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ عُثْمَانَ رَجَعَ عَنِ النَّهْيِ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَلَفْظُ الْبَغَوِيِّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عُثْمَانَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا خِلَافُ عَلِيٍّ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدُ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى عَنِ التَّمَتُّعِ الْمَعْهُودِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُثْمَانَ مَا كَانَ يُبْطِلُهُ، وإِنَّمَا كَانَ يَرَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كذَلِكَ فَلَمْ تَتَّفِقِ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي أَيِّ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ بَاقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُلْزِمُ مُجْتَهِدًا


(١) في طبعة بولاق: هكذا في النسخ التي بأيدينا، ولعله سقط منه لفظة "حجه"