للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

حِينَئِذٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَأَشَرْتُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى، وَإِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ غَلَطٌ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: رِوَايَةُ الصَّاحِبِ عَنِ الصَّاحِبِ، وَسُؤَالُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ، وَالْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ أَيْضًا خَبَرٌ وَاحدٌ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ فَرْدٌ يَنْضَمُّ إِلَى نَظَائِرَ مِثْلِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، وَفِيهِ اخْتِصَاصُ السَّابِقِ بِالْبُقْعَةِ الْفَاضِلَةِ، وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْحِرْصِ فِيهِ، وَفَضِيلَةُ ابْنِ عُمَرَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ لِيَعْمَلَ بِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْفَاضِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانَ يَغِيبُ عَنِ النَّبِيِّ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ الْفَاضِلَةِ، وَيَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فَيَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بِلَالٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْمَقَامِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَبْوَابِ وَالْغَلْقِ لِلْمَسَاجِدِ، وَفِيهِ أَنَّ السُّتْرَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ حَيْثُ يُخْشَى الْمُرُورُ فَإِنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجِدَارِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُصَلَّاهُ وَالْجِدَارِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الدُّنُوِّ مِنَ السُّتْرَةِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

الطَّوَافُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ دَاخِلِ الْكَعْبَةِ لِكَوْنِهِ جَاءَ فَأَنَاخَ عِنْدَ الْبَيْتِ فَدَخَلَهُ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ إِمَّا لِكَوْنِ الْكَعْبَةِ كَالْمَسْجِدِ الْمُسْتَقِلِّ أَوْ هُوَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمِّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَحَلُّ اسْتِحْبَابِهِ مَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِدُخُولِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ لَيْسَ مِنَ الْحَجِّ فِي شَيْءٍ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ إِنَّمَا دَخَلَهُ عَامَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُحْرِمًا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدَهَا وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ كَئِيبٌ، فَقَالَ: دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ فَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي.

فَقَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ لِكَوْنِ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ فِي الْفَتْحِ وَلَا فِي عُمْرَتِهِ، بَلْ سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَعْبَةِ فِي عُمْرَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي حَجَّتِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمْرَتِهِ لِمَا كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهَا، بِخِلَافِ عَامِ الْفَتْحِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، فَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي النَّقْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ فِي حَجَّتِهِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّفْلِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْفَرْضُ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُقِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةَ دَاخِلَهَا مُطْلَقًا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْبَارُ بَعْضِهَا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِقْبَالِ جَمِيعِهَا، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَالطَّبَرِيِّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ مَنْعُ صَلَاةِ الْفَرْضِ دَاخِلَهَا، وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْإِجْزَاءُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ.

وَعَنِ ابْنِ حَبِيبٍ يُعِيدُ أَبَدًا، وَعَنْ أَصْبَغَ إِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا، وَأَطْلَقَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ النَّوَافِلِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ الرَّوَاتِبِ، وَمَا تُشَرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَفِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَرِهَ مَالِكٌ الْفَرْضَ