للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَوْجُهٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَوْصُولًا بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ، وَقَالَ: وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَهُوَ ثِقَةٌ. قَالَ: وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَمَعْمَرٌ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ. قُلْتُ: وَطَرِيقُ أَبِي أُسَامَةَ أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا فِي الْحَجِّ، بَلْ حَذَفَ مِنْهُ ذِكْرَ الِاشْتِرَاطِ أَصْلًا إِثْبَاتًا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَنَفْيًا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْبَيْهَقِيُّ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَالزُّهْرِيِّ فَرَّقَهُمَا، كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَلِقِصَّةِ ضُبَاعَةَ شَوَاهِدُ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَلِّبِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ - أَيْ: فِي الضَّعْفِ -، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي. قَالَ: فَأَدْرَكَتْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. قُلْتُ: وَعَنْ ضُبَاعَةَ نَفْسِهَا، وَعَنْ سُعْدَى بِنْتِ عَوْفٍ وَأَسَانِيدُهَا كُلُّهَا قَوِيَّةٌ. وَصَحَّ الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاطِ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ إِنْكَارُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ، عَنِ الْأَصِيلِيِّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ فِي الِاشْتِرَاطِ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَسْنَدَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مَعْمَرٍ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ صَحِيحٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، انْتَهَى.

وَقَوْلُ النَّسَائِيِّ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْعِيفُ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرٌ فَضْلًا عَنْ بَقِيَّةِ الطُّرُقُ؛ لِأَنَّ مَعْمَرًا ثِقَةٌ حَافِظٌ فَلَا يَضُرُّهُ التَّفَرُّدُ، كَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ لِمَا رَوَاهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ) قَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطْنَاهُ سُنَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: تَمَسَّكُوا وَشَبَهُهُ. وَخَبَرُ حَسْبُكُمْ فِي قَوْلِهِ: طَافَ بِالْبَيْتِ وَيَصِحُّ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّ سُنَّةً خَبَرُ حَسْبُكُمْ، أَوِ الْفَاعِلُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فِيهِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا تَفْسِيرًا لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: مَنْ نَصَبَ سُنَّةً فَإِنَّهُ بِإِضْمَارِ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْزَمُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (طَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: إِنْ حَبَسَ أَحَدًا مِنْكُمْ حَابِسٌ عَنِ الْبَيْتِ فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ طَافَ بِهِ، الْحَدِيثَ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنَ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا مَشْرُوعِيَّتُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهِ، فَقِيلَ: وَاجِبٌ؛ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَهُوَ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَغَلِطَ مَنْ حَكَى عَنْهُ إِنْكَارَهُ، وَقِيلَ: جَائِزٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ فِي الْجَدِيدِ فَصَارَ الصَّحِيحُ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا مَشْرُوعِيَّةَ الِاشْتِرَاطِ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ بِضُبَاعَةَ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ ثُمَّ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي الْمَوْتُ إِذَا أَدْرَكَتْنِي الْوَفَاةُ انْقَطَعَ إِحْرَامِي. حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّرْطَ خَاصٌّ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ لَا مِنَ الْحَجِّ. حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَقِصَّةُ ضُبَاعَةَ تَرُدُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ سِيَاقِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ حَزْمٍ فِي التَّعَقُّبِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الِاشْتِرَاطَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ فِي الِاشْتِرَاطِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.