للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ مَا يُؤَيِّدُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَفْظُهُ: فَيَضَعُهَا عَلَيْهَا فَتُقَطْقِطُ كَمَا يُقَطْقِطُ السِّقَاءُ إِذَا امْتَلَأَ انْتَهَى.

فَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْقَدَمِ، فَطَرِيقُ السَّلَفِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ مَشْهُورَةٌ، وَهُوَ أَنْ تَمُرَّ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِتَأْوِيلِهِ بَلْ نَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ مَا يُوهِمُ النَّقْصَ عَلَى اللَّهِ، (١) وَخَاضَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ: الْمُرَادُ إِذْلَالُ جَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا إِذَا بَالَغَتْ فِي الطُّغْيَانِ وَطَلَبِ الْمَزِيدِ أَذَلَّهَا اللَّهُ فَوَضَعَهَا تَحْتَ الْقَدَمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقَدَمِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ أَلْفَاظَ الْأَعْضَاءِ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَلَا تُرِيدُ أَعْيَانَهَا، كَقَوْلِهِمْ رَغِمَ أَنْفُهُ وَسُقِطَ فِي يَدِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الْفَرَطُ السَّابِقُ أَيْ يَضَعُ اللَّهُ فِيهَا مَا قَدَّمَهُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْقَدَمُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَا قُدِّمَ كَمَا يُسَمَّى مَا خُبِطَ مِنْ وَرَقٍ خَبَطًا، فَالْمَعْنَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ، فَالضَّمِيرُ لِلْمَخْلُوقِ مَعْلُومٌ، أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ اسْمُهُ قَدَمٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ آخِرُ الْأَعْضَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ فِي النَّارِ آخِرَ أَهْلِهَا فِيهَا، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلْمَزِيدِ.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أُطْلِقَتْ بِتَمْثِيلِ الْمُجَاوَرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الْأُمَمِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي عُصِيَ اللَّهُ فِيهَا فَلَا تَزَالُ تَسْتَزِيدُ حَتَّى يَضَعَ الرَّبُّ فِيهَا مَوْضِعًا مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْمَذْكُورَةِ فَتَمْتَلِئُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْقَدَمَ عَلَى الْمَوْضِعِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾ يُرِيدُ مَوْضِعَ صِدْقٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ صِدْقٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى شَفَاعَتِهِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا مُنَابِذٌ لِنَصِّ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ: يَضَعُ قَدَمَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَتْ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَالَّذِي قَالَهُ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْهَا، وَصَرِيحُ الْخَبَرِ أَنَّهَا تَنْزَوِي بِمَا يُجْعَلُ فِيهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا يُبَدَّلُ عِوَضَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيُقَالُ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ إِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاحِدًا مِنَ الْكُفَّارِ بِأَنْ يَعْظُمَ حَتَّى يَسُدَّ مَكَانَهُ وَمَكَانَ الَّذِي خَرَجَ، وَحِينَئِذٍ فَالْقَدَمُ سَبَبٌ لِلْعِظَمِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا وَقَعَ الْعِظَمُ حَصَلَ الْمِلْءُ الَّذِي تَطْلُبُهُ.

وَمِنَ التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ إِبْلِيسَ، وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ وَإِبْلِيسُ أَوَّلُ مَنْ تَكَبَّرَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى مُتَجَبِّرًا وَجَبَّارًا، وَظُهُورُ بُعْدِ هَذَا يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.

وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الرِّجْلِ تَحْرِيفٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَمِ الْجَارِحَةَ فَرَوَاهَا بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرِّجْلِ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً الْجَمَاعَةُ، كَمَا تَقُولُ: رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَالتَّقْدِيرُ يَضَعُ فِيهَا جَمَاعَةً، وَأَضَافَهُمْ إِلَيْهِ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ. وَبَالَغَ ابْنُ فُورَكٍ، فَجَزَمَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ الرِّجْلِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أَوَّلَهَا غَيْرُهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْقَدَمِ، فَقِيلَ: رِجْلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْمُ مَخْلُوقٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّجْلَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّجْرِ كَمَا تَقُولُ: وَضَعْتُهُ تَحْتَ رِجْلِي، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّجْلَ تُسْتَعْمَلُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ، كَمَا تَقُولُ: قَامَ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى رِجْلٍ.

وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عُقَيْلٍ: تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَمْرُهُ فِي


(١) وهذا هو الصواب الذي كان عليه سلف الأمة من الصحابة إلى أئمة المتبوعين، وباب التأويل هو الذي دخل منه جميع أصحاب مذاهب الضلال إلى ضلالاتهم، والغيب قد استأثر الله بعلمه، وكما قال الإمام مالك في الاستواء "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".