للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَالَ: وَكَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا حَتَّى يَجْعَلَ لَهَا مَهْرًا سِوَى الْعِتْقِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لَكِنْ لَعَلَّ مُرَادَ مَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ صُورَةُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَلَا سِيَّمَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَقَبِلَتْ، عَتَقَتْ وَلَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهَا لَهُ قِيمَتُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِعِتْقِهَا مَجَّانًا فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ رَضِيَتْ وَتَزَوَّجَتْهُ عَلَى مَهْرٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ كَانَ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا لَهُ قِيمَتُهَا. فَإِنِ اتَّحَدَا تَقَاصَّا.

وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ حِبَّانَ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الظَّاهِرُ مَعَ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْقِيَاسُ مَعَ الْآخَرِينَ ; فَيَتَرَدَّدُ الْحَالُ بَيْنَ ظَنٍّ نَشَأَ عَنْ قِيَاسٍ وَبَيْنَ ظَنٍّ نَشَأَ عَنْ ظَاهِرِ الْخَبَرِ مَعَ مَا تَحْتَمِلُهُ الْوَاقِعَةُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَكِنْ يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِكَثْرَةِ خَصَائِصِ النَّبِيِّ Object فِي النِّكَاحِ، وَخُصُوصًا خُصُوصِيَّتَهُ بِتَزْوِيجِ الْوَاهِبَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ الْآيَةَ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْخَصَائِصِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَكَذَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَمَوْضِعُ الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا مُطْلَقًا وَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَعْتِقَ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَتَقَرَّرَ اسْتِحَالَتُهُ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَهَا عَلَى نَفْسِهَا إِمَّا أَنْ يَقَعَ قَبْلَ عِتْقِهَا وَهُوَ مُحَالٌ لِتَنَاقُضِ الْحُكْمَيْنِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حُكْمُهَا الِاسْتِقْلَالِ وَالرِّقُّ ضِدُّهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِزَوَالِ حُكْمِ الْجَبْرِ عَنْهَا بِالْعِتْقِ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا تَرْضَى وَحِينَئِذٍ لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِرِضَاهَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْعِتْقَ صَدَاقًا فَإِمَّا أَنْ يَتَقَرَّرَ الْعِتْقُ حَالَةَ الرِّقِّ وَهُوَ مُحَالٌ لِتَنَاقُضِهِمَا، أَوْ حَالَةَ الْحُرِّيَّةِ فَيَلْزَمُ أَسْبَقِيَّتُهُ عَلَى الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْعِتْقِ حَالَةَ فَرْضِ عَدَمِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَقَرُّرُهُ عَلَى الزَّوْجِ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا حُكْمًا حَتَّى تَمْلِكَ الزَّوْجَةُ طَلَبَهُ. فَإِنِ اعْتَلُّوا بِنِكَاحِ التَّفْوِيضِ فَقَدْ تَحَرَّزْنَا عَنْهُ بِقَوْلِنَا حُكْمًا، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَيْءٌ لَكِنَّهَا تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَيْءٌ تُطَالِبُ بِهِ الزَّوْجَ، وَلَا يَتَأَتَّى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. وَتُعَقِّبَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ بِجَوَازِ تَعْلِيقِ الصَّدَاقِ عَلَى شَرْطِ إِذَا وُجِدَ اسْتَحَقَّتْهُ الْمَرْأَةُ كَأَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى مَا سَيُسْتَحَقُّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ وَهُوَ كَذَا، فَإِذَا حَلَّ الْمَالُ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّتْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ Object جَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَهُوَ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ حَدِيثُ أَنَسٍ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ Object قَالَ لَهَا لَمَّا جَاءَتْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا: هَلْ لَكِ أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجَكِ؟ قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِنْ كَانَ أَدَّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا أَنْ يَصِيرَ وَلَاؤُهَا لِمُكَاتِبِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا قَدْ فَعَلْتُ رَضِيتُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ Object عَوَّضَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ عَنْهَا فَصَارَتْ لَهُ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَمَا صَنَعَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، أَوْ يَكُونُ ثَابِتٌ لَمَّا بَلَغَتْهُ رَغْبَةُ النَّبِيِّ Object وَهَبَهَا لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: لِلسَّيِّدِ تَزْوِيجُ أَمَتَهُ إِذَا أَعْتَقَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا حَاكِمٍ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ يَأْتِي فِي بَابِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبُ بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ بَابًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَإِنْ قِيلَ ثَوَابُ الْعِتْقِ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ فَوَّتَهُ حَيْثُ جَعَلَهُ مَهْرًا؟ وَكَانَ يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَهْرِ غَيْرَهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتُ مَلِكٍ، وَمِثْلُهَا لَا يَقْنَعُ إِلَّا بِالْمَهْرِ الْكَثِيرِ،