للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

جَانِبَ ذَلِكَ، تَمَرَّنَ عَلَى الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ هَوَاهُ تَبَعًا لَهُ، وَيَلْتَذُّ بِذَلِكَ الْتِذَاذًا عَقْلِيًّا، إِذِ الِالْتِذَاذُ الْعَقْلِيُّ إِدْرَاكُ مَا هُوَ كَمَالُ وَخَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ. وَعَبَّرَ الشَّارِعُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ اللَّذَائِذِ الْمَحْسُوسَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ عُنْوَانًا لِكَمَالِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا تَأَمَّلَ أَنَّ الْمُنْعِمَ بِالذَّاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْ لَا مَانِحَ وَلَا مَانِعَ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ وَسَائِطُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُ مُرَادَ رَبِّهِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ نَحْوَهُ: فَلَا يُحِبُّ إِلَّا مَا يُحِبُّ، وَلَا يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ إِلَّا مِنْ أَجْلِهِ. وَأَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّ جُمْلَةَ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ حَقٌّ يَقِينًا. وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ الْمَوْعُودُ كَالْوَاقِعِ، فَيَحْسَبُ أَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ رِيَاضٌ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الْكُفْرِ إِلْقَاءٌ فِي النَّارِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَشَاهِدُ الْحَدِيثِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ - إِلَى أَنْ قَالَ - ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ثُمَّ هَدَّدَ عَلَى ذَلِكَ وَتَوَعَّدَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾

(فَائِدَةٌ): فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرُ مِنَ الثَّانِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَحَبَّةُ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ فَرْضٌ وَنَدْبٌ، فَالْفَرْضُ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَعَاصِيهِ وَالرِّضَا بِمَا يُقَدِّرُهُ، فَمَنْ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَلِتَقْصِيرِهِ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ حَيْثُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ وَالتَّقْصِيرُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَيُورِثُ الْغَفْلَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّوَسُّعِ فِي الرَّجَاءِ فَيُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ تَسْتَمِرُّ الْغَفْلَةُ فَيَقَعُ. وَهَذَا الثَّانِي يُسْرِعُ إِلَى الْإِقْلَاعِ مَعَ النَّدَمِ. وَإِلَى الثَّانِي يُشِيرُ حَدِيثُ: لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالنَّدْبُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى النَّوَافِلِ وَيَتَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَالْمُتَّصِفُ عُمُومًا بِذَلِكَ نَادِرٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُزَادُ أَنْ لَا يَتَلَقَّى شَيْئًا مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَا يَسْلُكُ إِلَّا طَرِيقَتَهُ، وَيَرْضَى بِمَا شَرَعَهُ، حَتَّى لَا يَجِدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَاهُ، وَيَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ فِي الْجُودِ وَالْإِيثَارِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ، أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. وَمَعْنَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ، وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي الدِّينِ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَحْصُلُ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ. وَإِنَّمَا قَالَ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَمْ يَقُلْ مِمَّنْ لِيَعُمَّ مَنْ يَعْقِلَ وَمَنْ لَا يَعْقِلَ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَذِهِ التَّثْنِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِلَّذِي خَطَبَ فَقَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْخُطَبِ الْإِيضَاحُ، وَأَمَّا هُنَا فَالْمُرَادُ الْإِيجَازُ فِي اللَّفْظِ لِيُحْفَظَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَيْثُ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ أَيْضًا الْإِيجَازُ فَلَا نَقْضٌ. وَثَمَّ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى، مِنْهَا: دَعْوَى التَّرْجِيحِ، فَيَكُونُ حَيِّزُ الْمَنْعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَامٌّ. وَالْآخَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ ; وَلِأَنَّهُ نَاقِلٌ وَالْآخُرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ ; وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالْآخَرُ فِعْلٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ فِي الْقَوْلِ أَيْضًا حَاصِلٌ بِكُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَصْلًا، وَمِنْهَا دَعْوَى أَنَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا جَمَعَ أَوْهَمَ إِطْلَاقُهُ التَّسْوِيَةَ، بِخِلَافِهِ هُوَ فَإِنَّ مَنْصِبَهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِيهَامُ ذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا مَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.

وَمِنْهَا دَعْوَى التَّفْرِقَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُ ﷺ هُنَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَحْسُنُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَكَلَامُ الَّذِي خَطَبَ جُمْلَتَانِ لَا يُكْرَهُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهِمَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ. وَتُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُكْرَهُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهِمَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ أَنْ يُكْرَهَ إِقَامَةُ الْمُضْمَرِ فِيهَا مَقَامَ الظَّاهِرِ، فَمَا وَجْهُ الرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ ﷺ جَمَعَ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ قِصَّةَ الْخَطِيبِ - كَمَا قُلْنَا - لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ عُمُومٍ، بَلْ هِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ،