للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بِهِ حَقِيقَةُ اللَّعْنِ بَلِ التَّنْفِيرُ فَقَطْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ هُنَا الْمُرَادَ بِاللَّعْنِ الْإِهَانَةُ وَالْخِذْلَانُ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَمَّا اسْتَعْمَلَ أَعَزَّ شَيْءٍ فِي أَحْقَرِ شَيْءٍ خَذَلَهُ اللَّهُ حَتَّى قُطِعَ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: جَوَّزَ بَعْضُهُمْ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ مَا لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنِ اللَّعْنِ فِي الْجُمْلَةِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَوْلَى، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ لَعْنَ النَّبِيِّ ﷺ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي كَانَ تَحْذِيرًا لَهُمْ عَنْهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَإِذَا فَعَلُوهَا اسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَأَمَّا مَنْ أَغْلَظَ لَهُ وَلَعَنَهُ تَأْدِيبًا عَلَى فِعْلٍ فَعَلَهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ شَرْطِهِ حَيْثُ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَ لَعْنِي لَهُ كَفَّارَةً وَرَحْمَةً. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا صَدَرَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ كَمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي الْحُنَيْنِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ تَوْبَةِ السَّارِقِ.

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَقَدْ سَلِمَ مِنْ تَدْلِيسِ الْأَعْمَشِ قُلْتُ: وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ الْأَعْمَشُ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ.

قَوْلُهُ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِنْ سَرَقَ بَيْضَةً قُطِعَتْ يَدُهُ وَإِنْ سَرَقَ حَبْلًا قُطِعَتْ يَدُهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْأَعْمَشُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (كَانُوا يَرَوْنَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الرَّأْيِ وَبِضَمِّهِ مِنَ الظَّنِّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بَيْضَةُ الْحَدِيدِ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ) وَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ يَسْوَى، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّتَهَا وَالْحَقُّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لَكِنْ بِقِلَّةٍ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأْوِيلُ الْأَعْمَشِ هَذَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ مِنَ اللَّوْمِ وَالتَّثْرِيبِ: أَخْزَى اللَّهُ فُلَانًا عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ فِي مَالٍ لَهُ قَدْرٌ وَمَزِيَّةٌ وَفِي عَرَضٍ لَهُ قِيمَةٌ إِنَّمَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي مِثْلِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَا وَزْنَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ، هَذَا حُكْمُ الْعُرْفِ الْجَارِي فِي مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلُهُ ذَمُّ السَّرِقَةِ وَتَهْجِينُ أَمْرِهَا وَتَحْذِيرُ سُوءِ مَغَبَّتِهَا فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ مِنَ الْمَالِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ سَرِقَةَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ وَالْحَبْلِ الْخَلَقِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ إِذَا تَعَاطَاهُ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْعَادَةُ لَمْ يَيْأَسْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَةِ مَا فَوْقَهَا حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَلْيَحْذَرْ هَذَا الْفِعْلَ وَلْيَتَوَقَّهُ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَهُ الْعَادَةُ وَيَمْرُنَ عَلَيْهَا لِيَسْلَمَ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ وَوَخِيمِ عَاقِبَتِهِ.

قُلْتُ: وَسَبَقَ الْخَطَّابِيَّ إِلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: احْتَجَّ الْخَوَارِجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ فِي قَلِيلِ الْأَشْيَاءِ وَكَثِيرِهَا، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ ﵊ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَزَلَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَكَانَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْأَعْمَشِ: إِنَّ الْبَيْضَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الرَّأْسِ فِي الْحَرْبِ وَأَنَّ الْحَبْلَ مِنْ حِبَالِ السُّفُنِ، فَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ صَحِيحَ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ يَبْلُغُ دَنَانِيرَ كَثِيرَةً وَهَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ تَكْثِيرٍ لِمَا سَرَقَهُ السَّارِقُ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَنْ يَقُولُوا: قَبَّحَ اللَّهُ فُلَانًا عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَرٍ وَتَعَرَّضَ لِلْعُقُوبَةِ بِالْغُلُولِ فِي جِرَابِ مِسْكٍ، وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَدِ فِي حَبْلٍ رَثٍّ أَوْ فِي كُبَّةِ شَعْرٍ أَوْ رِدَاءٍ خَلَقٍ; وَكُلُّ مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ انْتَهَى.

وَرَأَيْتُهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ وَفِيهِ: حَضَرْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ بِمَكَّةَ قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَيُعْجَبُ بِهِ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ