للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

حَتَّى قُتِلَا جَمِيعًا، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي تَحْقِيقِ الزِّنَا مِنْهُمَا.

وَفِي هَذَا الْحَديثِ مِنَ الْفَوَائِدِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ إِذَا زَنَى وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ ذَهِلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَنَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْإِحْصَانِ الْمُوجِبَ لِلرَّجْمِ الْإِسْلَامُ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَأَحْمَدَ لَا يَشْتَرِطَانِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُمَا وُقُوعُ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ رُجِمَا كَانَا قَدْ أُحْصِنَا كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَمُعْظَمُ الْحَنَفِيَّةِ وَرَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ: شَرْطُ الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامُ.

وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ ﷺ إِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ؛ فَإِنَّ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ، قَالُوا: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ دُخُولِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالْعَمَلِ بِهَا حَتَّى يُنْسَخَ ذَلِكَ فِي شَرْعِهِ، فَرَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا﴾ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ أُحْصِنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ كَمَا تَقَدَّمَ، انْتَهَى.

وَفِي دَعْوَى الرَّجْمِ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْصَنْ نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَوْمئِذٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مَا فَعَلَهُ، قَالَ: وَإِذَا أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ لَا ذِمَّةَ لَهُ فَلَأَنْ يُقِيمَهُ عَلَى مَنْ لَهُ ذِمَّةٌ أَوْلَى.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُعْتَرَضُ عَلَى جَوَابِ مَالِكٍ بِكَوْنِهِ رَجَمَ الْمَرْأَةَ وَهُوَ يَقُولُ لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ، إِلَّا إِنْ أَجَابَ: ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَأَيَّدَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُمَا كَانَا حَرْبِيَّيْنِ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنْ مَجِيئَهُمْ سَائِلِينَ يُوجِبُ لَهُمْ عَهْدًا كَمَا لَوْ دَخَلُوا لِغَرَضٍ كَتِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي أَمَانٍ إِلَى أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَأْمَنِهِمْ.

قُلْتُ: وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ هَذَا إِلَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: دَعْوَى أَنَّهُمَا كَانَ حَرْبِيَّيْنِ بَاطِلَةٌ بَلْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ، كَذَا قَالَ: وَسَلَّمَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْحَاكِمَ مُخَيَّرٌ إِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَاخْتَارَ ﷺ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِحْصَانِ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ وَهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ، وَانْفَصَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمَا كَانَا مُحَكِّمَيْنِ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرَيْنِ مَا عِنْدَهُ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ حَقٌّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ وَلَا يَخْلُصُ عَنِ الْإِيرَادِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي الْحَدِيثِ أنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَجَمَهُمَا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا حَكَّمُوهُ فِيهِ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَرَاهُ فِي شَرْعِهِ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ قَالَ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدْعَى شُهُودَهُمْ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَلَوْ جَاءُونِي لَحَكَمْتُ عَلَيْهِمْ بِالرَّجْمِ، وَلَمْ أَعْتَبِرِ الْإِسْلَامَ فِي الْإِحْصَانِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدُّ الزَّانِي حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَعَلَى الْحَاكِمِ إِقَامَتُهُ، وَقَدْ كَانَ لِلْيَهُودِ حَاكِمٌ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِمَا، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الزَّانِيَيْنِ حَكَّمَاهُ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِغَيْرِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَحُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّحْكِيمِ، وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ بِأَنَّهُ وَقَعَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَرَدَّهُ الْخَطَّابِيُّ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ وَإِنَّمَا جَاءَهُ الْقَوْمُ سَائِلِينَ عَنِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِمَا كَتَمُوهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ مُخَالِفًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمَنْسُوخِ، فَدَلَّ