للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: ولا منافاة بين هذه الأقوال، فقد ورد أن كلّا منها يغشاها كما سيأتي ذلك في القصة. وقيل أبهمه تعظيما له كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما الله أعلم به من دلائل ملكوته وعجائب قدرته.

الإمام: «يغشى يستر، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان، يقال فلان يغشانا كل وقت أي يأتينا، الوجهان محتملان» .

الحادي والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ:

الصحاح: «الزّيغ الميل، وقد زاغ يزيغ وزاغ البصر أي مال» .

ابن القيم: «قال ابن عباس: «ما زاغ البصر يمينا ولا شمالا، ولا جاوز ما أمر به» . وعلى هذا المفسّرون، فنفى تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين أيدي الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة، إذ لم يلتفت جانبا، ولم يمدّ بصره إلى غير ما أري من الآيات وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريد له دون التفاته إلى غيره، ودون تطلعه إلى ما لم يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته.

وهذا غاية الكمال. فزيغ البصر التفاته جانبا، وطغيانه مدّه أمامه إلى حيث ينتهي. فنزّه في هذه السورة عمله عن الضّلال وقصده عن الغيّ ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره، وبصره عن الزيغ والطغيان. وهكذا يكون المدح:

تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

اللباب تبعا للإمام الرازي: «اللام في البصر تحتمل وجهين: أحدهما: المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلم، أي ما زاغ بصر محمد، وعلى هذا فعدم الزّيغ لوجوه: إن قلنا الغاشي للسّدرة هو الجراد أو الفراش، فمعناه لم يلتفت محمد إليه ولم يشتغل به، ولم يقطع نظره عن مقصوده.

وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء وامتحانا للنبي صلى الله عليه وسلم. وإن قلنا أنوار الله تعالى ففيه وجهان: أحدهما: لم يلتفت يمنّة ويسرة، بل اشتغل بمطالعتها، وثانيهما: ما زاغ البصر بضعفه، ففي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني بيان قوته. الوجه الثاني في اللام: أنها لتعريف الجنس، أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع لعظم الهيبة. فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ما زاغ بصر، فإنه أدلّ على العموم لأن النّكرة في معرض النّفي تعمّ. فالجواب هو كقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: ١٠٣] ولم يقل لم يدركه بصر.

الثاني والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: وَما طَغى: [النجم: ١٧] .

اللباب تبعا للإمام الرازي: «فيه وجهان: أحدهما أنه عطف جملة مستقلة على جملة