للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الباب الثالث في حلمه وعفوه مع القدرة له صلى الله عليه وسلم]

قال الله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف ١٩٩] وقال عز وجل: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران ١٥٩] .

روى أبو نعيم عن قتادة رحمه الله تعالى قال: طهر الله تعالى رسوله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا، رؤوفا بالمؤمنين رحيما [ (١) ] .

وروى ابن مردويه عن جابر وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشّعبي قال: لما أنزل الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الآية، قال: ما تأويل هذه الآية يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، فصعد، ثم نزل، فقال: يا محمد أن الله تبارك وتعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.

وروى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الآية مسائل:

الأولى: قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بالعفو عن أخلاق الناس [ (٢) ] .

وروى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر،

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت سمرة فعلق سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: «إن هذا اخترط عليّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده فقال: من يمنعك مني؟» فقلت: الله ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس [ (٣) ] .


[ (١) ] ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنّفهم بيّن الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل: «ما» استفهام. والمعنى: فبأيّ رحمة من الله لنت لهم، فهو تعجيب. وفيه بعد، لأنه لو كان كذلك لكان «فبم» بغير ألف. لِنْتَ من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظّ فظاظة وفظاظا فأنت فظّ. والأنثى فظّة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، وأنشد المفضّل في المذكّر:
وليس بفظّ في الأدانيّ والأولى ... يؤمّون جدواه ولكنّه سهل
وفظّ على أعدائه يحذرونه ... فسطوته حتف ونائله جزل
وقال آخر في المؤنث:
أموت من الضّرّ في منزلي ... وغيري يموت من الكظّه
ودنيا تجود على الجاهلين ... وهي على ذي النهى فظّه
وغلظ القلب عبارة عن تجهّم الوجه، وقلّة الانفعال في الرّغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد؟ ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
[ (٢) ] أخرجه البخاري في التفسير ٨/ ١٥٥ (٤٦٤٣، ٤٦٤٤) .
[ (٣) ] تقدم.