للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب الثاني في إعجاز القرآن واعتراف مشركي قريش بإعجازه، وأنه لا يشبه شيئاً من كلام البشر، ومن أسلم لذلك

قال الله سبحانه وتعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء/ ٨٨] منهم العرب العاربة وأرباب البيان وتفانوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن من بلاغته وحسن نظمه وقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: ٨٨] جواب قسم محذوف وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: ٨٨] معينا على الإتيان بمثله، ولم يدرج الملائكة في الفريقين مع عجزهم أيضا عنه، لأنهما هما المتحدّيان، ومن ثمّ تعجبت الجنّ من حسن نظمه وبلاغته البالغة أقصى درجاتها، فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: ١- ٢]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله- عز وجل- فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» رواه الشيخان.

قال الحافظ- رحمه الله- قوله: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى» هذا دالّ علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضرّه من أصرّ على المعاندة قال ابن قرقول: «من» الأولى بيانية والثانية زائدة، و «ما» موصولة أو نكرة موصوفة، ووقعت مفعولا ثانيا «لأعطى» و «مثله» مبتدأ آمن خبره، والجملة صفة للنكرة صلة الموصول والراجع إلى الموصول ضمير المجرور في «عليه» أي مغلوبا عليه في التحدّي والمباراة، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل هنا موقعه في قوله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة/ ٢٣] أي ممّا يبيّن عليه صفته في البيان وعلوّ الطبقة في حسن النظم، والمثل يطلق ويراد به عين الشّيء وما يساويه، والمعنى إن كل نبي من الأنبياء قد أعطاه الله تعالى من المعجزات الدالة على نبوته الشيء الذي من صفته، أنه إذا شوهد اضطر الشاهد إلى الإيمان به.

وتحريره: إن كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خوارق العادات حسب زمانه، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة فكانت تلقف ما صنعوا كقلب العصا ثعبانا في زمن موسى فخصّ كل نبي بما أثبت به دعواه من خوارق العادات المناسبة لحال قومه، وإخراج اليد بيضاء وإنما كان كذلك، لأنه الغالب في زمانه السحر، إذ كان ماشيا عند فرعون فأتاهم بما هو فوقه فاضطرّهم إلى الإيمان به ولم يقع ذلك لغيره، وفي زمن عيسى الطب، فجاءهم بما هو أعلى منه من إبراء الأكمه والأبرص بما ليس في قدرة بشر وهو إحياء الميّت، وأمّا النبي صلى الله عليه وسلم فأرسله في العرب العرباء أصل الفصاحة والبلاغة وتأليف الكلام على أعلى طبقاتها ومحاسن بدايتها باسم القرآن فأعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة منه وقوله «آمن» وقع في رواية حكاها ابن قرقول