للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وروى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال: يا رسول الله، ابن خطل معلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه.

فابن القاص- رحمه الله تعالى- معذور، فإنه لما رأى حديث الأمان في دخول المسجد وحده، رأى في هذا الحديث الأمر بقتل ابن خطل بسط هذه الخصوصية، وهذا نهاية أمر الفقيه جمعا بين الأحاديث، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أمن الناس استثنى ابن أخطل وغيره، كما سبق في غزوة الفتح.

[التاسعة والعشرون:]

وبأن له تعزير من شاء بغير سبب يقتضيه، ويكون له رحمة، ذكره ابن القاص، وتبعه الإمام والبيهقي، ولا يلتفت إلى قول من أنكره.

روى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم، إني أتخذ عندك عهدا لا تخلفنيه فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته أو سببته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له زكاة وصلاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» .

وروى مسلم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلان يكلمانه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله، من أصاب من الخير شيئا مما أصابه هذان قال: «وما ذاك» ؟ قلت: لعنتهما وسببتهما قال:

«أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم، إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها لها طهورا وزكاة، وقربة تقربه بها يوم القيامة» .

قال النووي- رحمه الله تعالى-: هذه الأحاديث منبهة على ما كان عليه- عليه الصلاة والسلام- من الشفقة على أمته، ومن الاعتناء بمصالحهم، والاحتياط لهم، والرغبة في كل ما ينفعهم، وهذه الرّواية الأخيرة تبين المراد من الرّوايات المطلقة، وأنّه يكون دعاؤه عليهم وسبه ولعنه ونحو ذلك، رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك، إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلما وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين، ولم يكن رحمة لهم.

فإن قيل: فكيف يدعو على من ليس بأهل للدعاء عليه، أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك؟ فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن المراد ليس بأهل، لذلك عند الله تعالى في باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. انتهى.

وهذا الجواب ذكره المازري، وهو مبني على قول من قال: إنه كان يجتهد في الأحكام، ويحكم بما أدى إليه اجتهاده، وأما من قال: لا يحكم إلا بالوحي، فلا يتأتى فيه هذا الجواب.