للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب الثالث في حكم عقد قلبه- صلى الله عليه وسلم- في أمور البشر الجارية على يديه ومعرفة المحق من المبطل وعلم المصلح من المفسد

وأمّا ما يعتقد في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم، ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد، فبهذه السّبيل،

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ممّا أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار» .

حدثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله، حدثنا الحسين بن محمد الحافظ، حدثنا أبو عمر، حدثنا أبو محمد، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث.

وفي رواية الزهري، عن عروة: «فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له» .

وتجرى أحكامه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وموجب غلبات الظنّ بشهادة الشاهد، ويمين الحالف، ومراعاة الأشبه، ومعرفة العفاص والوكاء، مع مقتضى حكمة الله في ذلك، فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده، ومخبّآت ضمائر أمته، فتولّى الحكم بينهم بمجرّد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بيّنة أو يمين أو شبهة، ولكن لما أمر الله أمّته باتّباعه والاقتداء به في أفعاله وأحواله وقضاياه وسيره، وكان هذا لو كان ممّا يختصّ بعلمه ويؤثّره الله به، لم يكن للأمّة سبيل إلى الاقتداء به في شيء من ذلك، ولا قامت حجّة بقضيّة من قضاياه لأحد في شريعته، لأنا لا نعلم ما اطلع عليه هو في تلك القضيّة لحكمه هو إذا في ذلك بالمكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم، وهذا ما لا تعلمه الأمة، فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التي يستوي في ذلك هو وغيره من البشر، ليتمّ اقتداء أمته به في تعيين قضاياه، وتنزيل أحكامه، ويأتون ما أتوا من ذلك على علم ويقين من سنّته، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول، وأدفع لاحتمال اللّفظ وتأويل المتأوّل، وكان حكمه على الظاهر أجلى في البيان، وأوضح في وجوه الأحكام، وأكثر فائدة لموجبات التّشاجر والخصام، وليقتدي بذلك كلّه حكّام أمّته، ويستوثق بما يؤثر عنه، وينضبط قانون شريعته، وطيّ ذلك عنه من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فيعلّمه منه بما شاء، ويستأثر بما شاء، ولا يقدح هذا في نبوّته، ولا يفصم عروة من عصمته.