للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيد بعضهم الجواز، بأن يكون الأسير يحمل أسرارا مهمة يترتب على كشفها ضرر كبير بالمجاهدين، وأن لا يمكنه المقاومة حتى يقتلوه هم، وأن يكون مقصده من قتل نفسه دفع الضرر عن المسلمين لا الهروب من التعذيب (١) .

والذي يظهر أنه لا وجه لهذا القول. وما استشهدوا به من جواز أن يلقي المجاهد نفسه على العدو وإن كان يعلم أنه يقتل لا وجه له على ما ذهبوا إليه؛ لأن المجاهد في هذه الحالة لم يقتل نفسه بيده، وإنما قتله العدو، ثم أنه قد يلقى بنفسه على العدو وينجو من القتل.

وما ذكروه عن ابن قدامة في المغني، لا وجه له كذلك على ما ذهبوا إليه من جواز قتل الأسير نفسه. لأن موتهم بالنار في السفينة التي أحرقها العدو محقق، فهم انتقلوا إلى الماء طلبا للنجاة لا ليقتلوا أنفسهم، فهم هربوا من سبب شديد إلى سبب أخف قد يكون معه النجاة إذا تقرر هذا، فإن الواجب في حق الأسير أن يقاوم العدو بكل ما يستطيع حتى يقدر عليهم، أو يقتلوه هم بأيديهم، فإن لم يقدر على مقاومتهم فليصبر ويتحمل ويحتسب مهما بلغ تعذيبه وليبشر بالمثوبة والأجر العظيم من الله عز وجل، ولا يكشف للعدو أسرار المجاهدين ومواقعهم وعددهم وعدتهم مهما بالغوا في تعذيبه، وله أن يخبرهم بخلاف الواقع تلميحا وتورية فقد كان - صلى الله عليه وسلم - (قلما يريد غزوة يغزوها، إلا ورى بغيرها) (٢) .

وقال - صلى الله عليه وسلم - «الحرب خدعة» (٣) أو تصريحا إذا اضطروه إلى ذلك، لأنه مكره على الكذب وقد أبيح للمكره على التلفظ بالكفر أن يتلفظ بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل: ١٠٦] فإذا جاز للمكره على الكفر أن يتلفظ به مع بغضه له وطمأنينة قلبه بالإيمان فكذلك المكره على الكذب.

قال القرطبي: -رحمه الله-: لما سمح الله عز وجل بالكفر وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشرعية كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم (٤) والله أعلم.


(١) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي لنواف هايل تكروري ص (١٤١) .
(٢) سبق تخريجه.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) الجامع لأحكام القرآن (١٠/١٦١) .

<<  <  ج: ص:  >  >>