للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وتعاهده إياهم]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

قال البخاري رحمه الله: (باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم) حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مَثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة) .

وسليمان في هذا الحديث هو سليمان بن بلال.

قال الإمام البخاري: (باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم) .

يستفاد من هذا الحديث أن هذا لونٌ من ألوان التعليم والتهذيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعنى بتربية أصحابه تربية علمية أدبية، وكما أشرت إلى هذا المعنى قبل ذلك: أن التربية الأدبية في غاية الأهمية، إذ لا يحصل العلم إلا بأدب.

والآن تجد أن التربية الكمِّية غطت على التربية النوعية.

هذا الكم الكبير الهائل الذي يتبع هذه الصحوة المباركة، مع الأسف لا يصحبه كبير أدب، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون الأدب من النظر إلى سمت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهدهم في ذلك، وكان يترك لهم الفرصة أن يناظر بعضهم بعضاً أمامه، ثم هو يصوِّب أو يسكت، فسكوته دالٌ على استقامة الأمر على الجهتين، أو إذا أخطأ أحدهم كان يعقِّب عليه.

فمثلاً في حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان وابن حبان وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: (تسلف رجلٌ من رجلٍ ألف دينار، فقال: ائتني بكفيلٍ قال: كفى بالله كفيلاً، فقال: ائتني بشهيد.

قال: كفى بالله شهيداً، قال: صدقت، فأعطاه الألف دينار، يتاجر بها في البحر على أجل -يعني مدة زمنية-، فلما حان موعد الوفاء، وجاء الرجل المدين بالألف دينار حتى يؤديها إلى صاحبه، وكان بينهما بحراً، فحيل بينهما، ثم إن الرجل وضع الألف دينارٍ في خشبة وقذف بها في البحر، وذلك لما عجز أن يصل إلى صاحبه، وقال: ربّ جعلتك كفيلاً ووكيلاً فأوصل هذا الدَّين إلى صاحبه، ورمى بالخشبة في البحر، وصاحبه على الشاطئ الآخر ينتظر أي مركب، فلما لم يجد ووجد خشبةً تتأرجح أمامه في البحر قال: آخذها استدفئ بها أنا وعيالي، فأخذها وانطلق إلى داره، فلما وصل إلى الدار ضربها بقدومٍ، فإذا بالصرة تنزل من الخشبة، ففتحها فإذا برسالة من المدين إلى صاحبه: إنني عجزت عن الوصول إليك.

وبعد ذلك انتظر الرجل مركباً حتى وجدها، فركب وذهب إلى صاحبه بألف دينارٍ أخرى، فقال: ما منعني أن آتي إليك في الموعد إلا أنني لم أجد مركباً، وهذا أول مركبٍ أجده، قال: هل أرسلت إلي شيئاً، قال: أقول لك هذا أول مركب، فقال: ارجع راشداً فقد أدى الله عنك -وفي رواية ابن حبان - قال: فقد أدى عنك وكيلك) .

الشاهد من الحديث قال أبو هريرة: (قد رأيتنا تتعالى أصواتنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما آمن من صاحبه) ، هم يتناظرون فيما بينهم من أكثر إيماناً من الآخر؟ هل هو الذي رمى بالألف دينارٍ في البحر، وهي ليست وسيلة معهودة لإيصال المال، لاسيما في بحر أمواجه كالجبال، رمى خشبة في بحرٍ لجي، يعني: كان معهوداً بالأمواج أن تبتلع هذه الخشبة، لكن قوة قلبه ويقينه جعلته يرمي بالألف دينار في البحر فهل هو أقوى إيماناً أم صاحبه الذي أعطاه الألف دينار بلا مستند لمجرد أنه قال: كفى بالله وكيلا، كفى بالله شهيداً، فعظّم أمر الله عز وجل، وعظم اسمه، وأعطى الألف دينار بلا مستند، وقال له: صدقت.

أيهما آمن؟ أهذا الذي أعطى بلا مستند، لمجرد أنه قال: كفى بالله كفيلا، أم الذي رمى بالألف دينارٍ في البحر؟ لم أقف في طريق من طرق الحديث على تصوير النبي صلى الله عليه وسلم أيهما آمن من صاحبه: هذا أو ذاك؟ لكن الشاهد أن الصحابة كانوا يتناظرون في وجود النبي عليه الصلاة والسلام، وكان هو يصوّب، كمثل حديث: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) .

فجماعة قالوا: لا، لا بد أن نصلي الصلاة على وقتها، وقال الآخرون: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة، فلما رجعوا، وقصوا ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، تبسم ولم يخطّئ أو لم يعاتب أحداً من الفريقين جميعاً، فدل ذلك على أن كلا الفريقين مأجور -يعني: يدور ما بين أجرين، وما بين أجرٍ واحد- فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما طرح المسألة كما ذكرنا في الدرس الماضي؛ ليختبر ما عندهم من العلم.

لماذا؟ لأنه قد يكتشف موهبة، كما يقول عبد الله بن المعتز: كما أن الشمس لا يخفى ضوءها، وإن كان تحتها سحاب، كذلك الصبي لا تخفى غريزة عقله وإن كانت مغمورةً بأطمار الحداثة.

يعني هو حدث وصغير، لكنه قد يكون ذكياً عاقلاً

<<  <  ج: ص:  >  >>