للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حرمة احتقار الناس]

الشافعي رحمه الله لما دخل بغداد، دخل الرصافة -مدينة في العراق- وكان الشافعي في العراق مشهوراً قبل أن يأتي إلى مصر، فعندما دخل الرصافة هذه فلم يُفطن إليه، والإمام الشافعي لم يكن من الذين يعتنون بهيئته ولبسه، بينما كان الإمام مالك صاحب هِندام، والشافعي لم يكن كذلك.

المهم: أن الشافعي دخل المسجد وكان غريباً، فما دعاه أحد، والكل يصلي ويخرج، وتركوه، فأنشد بيتين من الشعر يعزي نفسه بها فقال: علي ثيابٌ لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفسٌ لو يقاس ببعضها نفوس الورى كانت أجل وأكبرا فأنت لا تنظر إلى هذه الأطمار البالية، فقد يكون بداخل هذه الأطمار نفس نفيسة وثمينة وغالية، فإياك أن تزدري أحداً بنظرك، وتخترقه هكذا بنظرك فتتصور أنه لا يعرف شيئاً! لا، قد يكون هذا من الصنف الذي لو أقسم على الله لأبرّه، فلا يمنعنك الكبر والحياء أن تستفيد من كل إنسان.

أقص عليكم تجربة حدثت لي.

كنت حين لا يكون عندي خطبة جمعة، وأذهب أبحث عن أي مسجد أصلي فيه، وأصلي، ولكن كنت أصلي بنفس ناقد، فأدخل لكي أسمع بأُذُن ناقد لا بأُذُن مستفيد، فأقول: لا يعجبني هذا الرجل، الخطبة لم تعجبني اليوم، إنه لا يعرف أن يتكلم، فكان هناك رجل خطيب في كل مرة يقابلني يقص لي الخطبة التي خطبها، وقد أكون مستعجلاً وهو يوقفني لأسمعه، ويمنعني الحياء أن أقول له: إنني مشغول، فكنت أقف متبرماً منه، وحين أراه أعرف أنني لن أعود اليوم، لماذا؟ سيسرد لي الخطبة التي فاتت، وممكن يقول لي: فهرس الخطبة القادمة كذا وكذا، فالمهم كنت أذهب إلى المساجد، ومساجد متنوعة، وكنت كلما ذهبت إلى مسجد أجد ذلك الرجل أمامي فيراني فأعرف أني لن أستطيع أن أفلت منه، فقلت لنفسي في ذات يوم: لماذا لا أقف واستفيد منه؟ لماذا أنا متململ دائماً ولا أريد أن أسمع؟ وفي يوم من الأيام قابلني في المسجد، فقلت في نفسي: سأقف وأستفيد وأَسمع.

والله إن الكلام المختصر الذي قاله كتبت منه حوالي أربع خطب، فقد فتّح لي أبواباً من العلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>