للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:

[حقارة الدنيا وعظمة الجنة]

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها) ، وحين تضع العصا على الأرض كم ستأخذ مساحة؟! إذاً الدنيا وما فيها لا تساوي موضع سوط في الجنة.

فموضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، انظر إلى حقارة الدنيا! وسأخبرك بشيء آخر أيضاً ليس عن موضع السوط، بل عن آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة يكون له ملك في الجنة كالدنيا عشر مرات هذا بعدما يأخذ جزاءه نظير تفريطه في الدنيا، ثم يخرج من النار فيقول الله سبحانه وتعالى: ادخل الجنة، فيأتي ليدخلها فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، لا يوجد فيها مكان.

وفي الحديث الصحيح أن الله عز وجل بعدما يعطي لكل واحد ملكه في الجنة، والجنة ما يزال فيها أماكن شاغرة، فينشئ لها خلقاً لكي يملئوها -كما في الصحيحين- فيأتي هذا الرجل ليدخل فيرجع ويقول: رب! وجدتها ملأى، فيقول له: أيرضيك أن يكون لك مُلْك مَلِكٍ من أهل الدنيا؟ فيقول: رب رضيت.

فيقول له: ادخل الجنة ولك عشرة أمثاله) .

وفي الصحيحين أيضاً أنه لما قال له: ادخل الجنة ولك مثل الدنيا، قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمي؟! فضحك النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا: ممَّ ضحكت؟ قال: من ضحك ربي حين قال له: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: ما أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر، ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها) ، فإذا كان آخر واحد سيدخل الجنة، له عشرة أمثال الدنيا فكم يساوي من الأسواط؟!!! أظن أن العملية واضحة جداً، تخيل عندما يكون موضع سوطٍ في الجنة خيراً من الدنيا وما فيها، وأقل واحد له ملك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات.

فأنت تقول لابنك: ادخل السياحة والفنادق لكي نتمتع ونعيش!! لقد أضررت بولدك؛ إذ عرضته لعذاب الله سبحانه وتعالى، إذاً: من الأصول المعروفة أن الوالد يتمنى لابنه أكثر مما يتمنى لنفسه، والوالد الذي يدفع ابنه إلى معاصي الله سبحانه وتعالى يكره ابنه ولا يحبه، وقد ضرب الله عز وجل مثلاً لأمثال هؤلاء، قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:١١] ، الأب الذي يحب أولاده وارتشى لأجلهم، وركب الحرام لأجلهم، في ذلك الوقت يريد أن يدخلهم النار مكانه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وإذا لم يَكْتَفِ بهم: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:١١-١٢] ، يقول: خذو زوجتي وأخي، وإذا لم يكونوا كافين: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:١٣] ، يدخل أهله كلهم النار فداءً له، وإذا كان هؤلاء غير كافين: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المعارج:١٤] ، يريد أن يدخل أهل الأرض كلهم النار فداءً له، لكن الله عز وجل قال له: {كَلَّا} [المعارج:١٥] ، انتهى الأمر.

فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن نظرته إلى الآخرة، والموازين عنده منضبطة، يقول: لو أن الدنيا كلها في كفة وإجابتك أمام النبي صلى الله عليه وسلم في كفة لاخترت إجابتك على الدنيا.

قال: (أما لو قلتها، لكان أحب إلي من كذا وكذا) وكلمة (كذا وكذا) تعني كل شيء تتخيله، فهذا درسٌ نتعلمه.

وانظر إلى تعظيم أمر الله ورسوله وتعظيم الآخرة عند عبد الله بن عمر، لماذا؟ لأن أباه عمر بن الخطاب، فهو قدوته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رأيت مرة في المصيف شخصاً متجهاً إلى المسجد ليصلي الجمعة بسروال قصير، وهو يقول لابنه: انظر يا بني إلى كرم ربنا، حيث جعل الجمعة ركعتين لأجل هذا الحر أأنت تصلي الجمعة في الشتاء أربع ركعات؟ إن هذا الرجل لا يعرف شيئاً، فإذا كان هذا هو حال الأب، فماذا سيكون حال ابنه؟! وأب آخر يقول لابنه: نحن آخر مرة صلينا الجمعة متى؟ فقال: يوم الأربعاء! وهو يسأله بجدية، فإذا كان الأب هكذا، فكيف سيكون الابن؟! لذلك نحن عندما نقول: لا بد من جيل التمكين، فلا بد أن يكون الأب ملتزماً، لا يتعدى حدود الله، أما الذي يتعدى حدود الله، فإنه لم يشكر المنعم عليه، وتجده مع ذلك مجداً في مخالفته إن هذا رجل خسيس؛ لأنه مخالف لأمر ربه، ومع ذلك يمهله الله ويعذره، ويمد له الحبل أيضاً، وكلما مد له الحبل اغتر فأتى أبواباً من العصيان لم يفعلها قبل ذلك.

وأنت تعرف الإنسان الوفي من الخسيس، وذلك عندما تنظر إليه كيف هو مع طاعة الله عز وجل، مهما كان ظريفاً في الدنيا، ومهما كان إنساناً جيداً، فانتبه أول ما تأتي المماحكة بينك وبينه سيضعك تحت رجليه، فهو إنسان جيد ومبتسم وظريف لأنه لا يوجد بينكم مماحكات، إذاً العاصي لربه تبارك وتعالى يجب أن تحذر منه، فأنت لست أغلى من الله تبارك وتعالى عنده.

إذاً: الأب لا بد أن يورِّث ولداً يشرِّفه، فيكون الأب دائماً مهتماً بالآخرة.

جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها في يوم الأضحى أن توزع لحم الشاة، وعائشة رضي الله عنها كانت سخية، فوزعت الشاة كلها ما عدا الذراع، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، سألها هل وزّعت الشاة أم لا؟ فقالت: نعم يا رسول الله! وزعتها ولم يبق إلا ذراعها، فقال: (بل بقيت كلها إلا ذراعها) .

لاحظ كيف كان نظر النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً نحو الآخرة، وذلك عندما قال: (بل بقيت كلها إلا ذراعها) .

فنقول للآباء: إذا كنت فعلاً تحب ابنك، وتتمنى أن يكون أحسن منك، فانظر إلى والدك: هل علّمك محبة الله ورسوله؟ ستجد في الغالب أن الوالد مقصِّر؛ بسبب النظام الشمولي الذي كان موجوداً.

إذاً: لو أنك تحب ولدك حقاً اجعله عبداً لله تبارك وتعالى، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج: ص: