للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نماذج من رجوع علماء السلف عن الخطأ والاعتراف به]

ذكر أبو بكر بن العربي في كتاب: أحكام القرآن -وهو كتاب ممتع- ذكر حكاية عن شيخه محمد بن القاسم العثماني، قال: دخلت مرة مصر وذهبت لأحضر مجلس أبي الفضل الجوهري، فسمعته يقول: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر وآلى) ، قال: وانفض المجلس فتبعته، قال: وعليَّ شارة الغربة، أي: علامة السعر.

وهي الثياب الرثة؛ لأجل هذا استغرب الصحابة شكل جبريل عليه السلام في حديث الإسلام والإيمان والإحسان، رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يعرفه منا أحد! هذا معناه أن ثيابه نظيفة، ولا يزال شعره مرجلاً.

قال: فتبعته، حتى إذا خف المجلس قال: أُراك غريباً.

قلت: نعم.

قال: لك حاجة؟ قلت: نعم.

قال: أفرجوا له.

فاختلى به، فقال له محمد بن قاسم: حضرت مجلسك متبركاً بك، فسمعتك تقول: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وسمعتك تقول: وآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت، وسمعتك تقول: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يكن؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، ما كان ليقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فضمني إليه، وقبل رأسي، وقال: أنا تائب من هذا القول، جزاك الله خيراً.

لا يمكن أن يفعل هذا إلا عالم مؤدب، تمرس على الأدب وهو طالب، فورث العلم والأدب وهو شيخ، قال: فلما كان من الغد بكرت إلى المسجد، فإذا الجامع غاص بأهله -مليء- قال: فدخلت، فلما رآني، استقبلني وقال: أهلاً بمعلمي! قال: فتطاولت الأعناق إلي.

-إذا كان شيخهم محترماً جداً إلى هذا الحد، فشيخ شيخهم كيف يكون؟ - قال: فتطاولت الأعناق إليَّ، ورفعوني، فتصبب بدني عرقاً من الحياء، ولم أعرف بأي موضع أنا من الأرض، قال: فحملوني إليه وقال أبو الفضل الجوهري: أنا معلمكم وهذا معلمي، إنني قلت لكم بالأمس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وآلى وظاهر) وإن هذا الشاب جاءني وقال: كذا وكذا، وأنا راجع عن قولي.

لأنك عندما تنسب نفسك إلى النقص غير أن تنسب نبيك إلى النقص، وليس لكي تدافع عن نفسك وعن وجهة نظرك تتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لا، أنت تعرف الحديث الذي رواه الشيخان في صحيحيهما، حديث الخوارج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فجاء ذو الخويصرة، فقال: يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل.

قال: ويحك، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) هي هذه الرواية التي قام المحققون بضبطها هكذا، وليس (لقد خبتُ وخسرتُ) شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من ظن في نبيه أنه لا يعدل كفر.

إساءة الظن بالنبي كفر، فلقد خبت وخسرت إن ظننت أني لا أعدل وأنا رسول رب العالمين، يقول لك: لأن الأسماء قد تكون كثيراً على خلاف القياس؛ ولذلك ينبغي أن تتلقى من أفواه الشيوخ، الأسماء بالذات لا تجري على القياس إنما تتلقى بالسمع.

فمثلاً: الأنباري صحح فهمه الدارقطني فَقَبِلَ، قال الدارقطني: فأعظمته وأكبرته أن يحمل عنه خطأ، فلم يذهب للشيخ مباشرة؛ لأن الشيخ جليل، كبير! والدارقطني مازال شاباً، يحضر مجالسه، قال: فأعلمت مستمليه.

فقلت: إنه يقول كذا، أي أن الاسم الفلاني ضبطه الشيخ خطأً، فالمستملي أبلغ أبا بكر الأنباري، فقال: إنني أخطأت في ضبط الاسم الفلاني، وقد أوقفنا هذا الشاب على الصواب.

قال: فعظم في عيني.

وهذا الشافعي يقول: ما ألقيت الحجة على أحد فقبلها إلا هبته، وزاد في عيني، وما ردها أحد إلا سقط من عيني! نحن قلنا: باب الأدب باب مهم، لا ينتفع الناس بعلم إلا إذا كان المبلغ تعلم الأدب.

ومن تمام الأدب أن تعرف قدر نفسك وتعرف قدر غيرك.

<<  <  ج: ص:  >  >>