للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نماذج من دفاع الصحابة عن الدين]

في سنن الدارمي: أن أبا موسى الأشعري لما كان في الكوفة رأى قوماً يسبحون بالحصى فأنكر ذلك، -الآن عندما تنكر السبحة يقولون لك: هناك أناس لا يصلون وهناك أناس زنادقة وملحدون، وأنت تتكلم على السبحة، هؤلاء بالنسبة لأولئك رضي الله عنهم، فانظر إلى تفاوت الهمم، هؤلاء يدورون ما بين بدعة وردة، ينظرون للمبتدع ويقولون: رضي الله عنه بالنسبة للمرتد، وحراس الحدود عندما تكون نظرته هكذا سقطت الحراسة ودخل العدو، نقول: لا يجوز للحارس أن يتساهل مع عدوه وإن كان نملة، فإن معظم النار من مستصغر الشرر- وانطلق أبو موسى الأشعري إلى عبد الله بن مسعود في صلاة الفجر، فوجد تلاميذ عبد الله بن مسعود على الباب، قال: أما خرج أبو عبد الرحمن؟ قالوا: لم يخرج بعد، فجلس معهم حتى خرج ابن مسعود فاكتنفوه، فقال أبو موسى الأشعري: يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت شيئاً آنفاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حلقاً حلقاً وأمام كل حلقة حصى، وأحدهم يقول: سبحوا مائة، كبروا مائة، هللوا مائة، فيعدون التسبيح والتكبير والتهليل، فقال ابن مسعود: يا أبا موسى! هلا أنكرت عليهم، وقلت لهم: عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أنه لن يضيع من حسناتكم شيء، قال: انتظار أمرك أو انتظار رأيك.

فانطلق عبد الله بن مسعود ودخل المسجد، فإذا الأمر كما وصف أبو موسى، فوقف على حلقة من هذه الحلق، وقال: ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد، ها هو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلى، حتى فعلتم شيئاً ما فعله ولا أصحابه، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلال، قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما نريد إلا الخير، نحن نذكر الله، وأظن أن هذا محمود عند طوائف كثيرة، ومع ذلك أنكره عبد الله بن مسعود، وما غره هذا الظاهر من الخير؛ لأنه مخالف لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وذلك مثل فعل عبد الله بن عمر فيما رواه مسلم في مطلع صحيحه من حديث يحيى بن يعمر، قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول معبد الجهني في القدر، فظهر لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقصون العلم، ويكثرون الصلاة، والصيام، والقيام، ويعتزلون والنساء.

-وذكر من شأنهم ما ذكر- غير أنهم يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، لم يقل له عبد الله بن عمر: بارك الله فيهم، وهؤلاء أناس يقرءون القرآن، ويطلبون العلم، لكن عليهم أن يغيروا هذه الصفة، لا، بل أهدر عبد الله بن عمر كل هذا الذي سمعه، وقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، فطالما أننا اختلفنا في الأصول فلا لقاء.

فـ عبد الله بن مسعود لم يغتر بظاهر هذه الحلقة في المسجد، وهم يذكرون الله، ويسبحونه، ويهللونه، ويحمدونه، فعندما قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ما نريد إلا الخير، قال: كم من مريد للخير لا يبلغه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عن أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وايم الله لعل أكثرهم منكم، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة.

قال يحيى بن يعمر: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.

وفي معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: عرست في زمان أبي ودعا أبي الناس، فجاء أبو أيوب الأنصاري، فلما جاء ووقف على الباب رأى ستائر على الجدر، فوقف ولم يدخل، وقال لأبي: أأنتم تسترون الجدر، قال سالم: فخفض أبي رأسه واستحيا، وقال: غلبنا النساء يا أبا أيوب، قال: لئن غلبن النساء أحداً لا يغلبنك، والله لا طعمت لكم طعاماً سائر اليوم، ورجع.

الصحابة ما كانوا يفوتون شيئاً من هذا، بل كانوا حراساً أمناء، لذلك ظل الدين نقياً، وخمد ذكر أهل البدع في أيامهم، فنحن في أمّس الحاجة إلى هذا الطراز من الحراس، الذين لا يسمحون بفوات مثل هذه القضايا، مهما انتقدوا من الآخرين: أنتم متشددون! أنتم تهتمون بسفاسف الأمور! أنتم تركتم المسائل الخطيرة! فمسألة إسناد الأمر إلى غير أهله فيها هلاك في الدنيا وضياع الدين، وهي من علامات الآخرة.

(إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، وما أسند الأمر إلى رجل غير مؤهل إلا بسبب غياب الرجل المؤهل؛ كما قال سفيان الثوري: لا تحيا بدعة إلا على أنقاض سنة.

إذاً: الذين تخلفوا عن حراسة الدين هم السبب، وإلا لا يمكن لقيادة أخرى أن تتبوأ مكانها؛ لأن هناك معركة فاصلة بيننا وبين هؤلاء العلمانيين، الذين كانوا يتسمون قبل ذلك بالقرآنيين، وليس لهم من القرآن شيء.

قيل لـ يحيى بن معين: ما تقول في الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حدثتكم من حديث فاعرضوه على القرآن، فما وافق القرآن فخذوه، وما عارضه فردوه) ؟ فقال ابن معين فوراً: لقد عرضناه على القرآن فوجدناه كذباً، فقيل: كيف؟ قال: لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧] .

<<  <  ج: ص:  >  >>