للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اعتراض أبي زرعة على بعض رواة مسلم وجواب الإمام مسلم عليه]

أقول: يبقى الجواب الذي أجاب به الإمام مسلم رحمه الله عن نفس هذا الاعتراض، الذي وجهه إليه سعيد بن عمرو البرذعي وهو أحد الملازمين لإمام الجرح والتعديل عبيد الله بن عبد الكريم، الذي هو أبو زرعة الرازي.

الخطيب البغدادي روى في تاريخه عن سعيد بن عمرو البرذعي قال: شهدت أبا زرعة الرازي وعرض عليه كتاب: الصحيح لـ مسلم -هل تعرف أن أبا زرعة الرازي، وأبا حاتم الرازي، والإمام مسلماً، والإمام البخاري أقران -يعني: أقران في كل من الطلب والزمن- فـ سعيد بن عمرو البرذعي جالس عند أبي زرعة الرازي فجاءه رجل وقال له: هذا الكتاب لـ مسلم بن الحجاج ألفه وسماه: الصحيح، وثَمَّ عالم اسمه: الفضل الصائغ أيضاً صنف في ذلك الوقت كتاباً سماه: الصحيح، فقيل لـ أبي زرعة: فما رأيك في هذا الصنيع؟ قال: فرأيت أبا زرعة يستنكر ذلك ويقول: هؤلاء قومٌ أرادوا رئاسة لأنفسهم قبل أوانها، فصنفوا كتباً يتتوقون بها -يتتوقون بها يعني: أنفسهم تتوق إلى شيء- ثم بدأ أبو زرعة الرازي يقلب صفحات صحيح مسلم وإذا حديث لـ أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: أسباط بن نصر يُروَى له في الصحيح؟! ثم قلَّب ورقتين أو ثلاثاً أو أربعاً وإذا به يجد قطن بن نسير وهو من شيوخ مسلم، قال: وقطن يُخَرَّج له في الصحيح؟! هذا أهم من الأول، ثم قلَّب ورقتين أو ثلاثاً وإذا به يجد أحمد بن عيسى المصري، قال: وعيسى المصري؟! ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه.

وأشار إلى لسانه.

ماذا يعني هذا؟ يعني: أن أهل مصر يقولون: إن أحمد بن عيسى يكذب، فكيف يروي أحمد بن عيسى في الصحيح؟! ثم قال: يترك ابن عجلان ونظراءَه ويمهد الطريق لأهل البدع علينا، حتى إذا لم يروِ الحديث قالوا: ليس بالصحيح؟! قال: ورأيته يعظِّم ذلك ويستنكره.

قال سعيد بن عمرو البرذعي: فلما رجعتُ إلى مسلم حكيتُ له اعتراض أبي زرعة.

فانظر ماذا سيقول الإمام مسلم، هذه الإجابة التي ينبغي أن لا نغفلها، ونحن ننظر إلى الأسانيد التي في الصحيحين، وفي بعضها كلام.

قال مسلم: إن ما قلته من الاعتراض صحيح، وأنا أقر به.

إذاً: مسلم يعلم أن هؤلاء الرواة مُتَكَلَّم فيهم، ومع ذلك خَرَّج لهم.

إذاً: ما عُذْرُك أيها الإمام؟ قال: إن الحديث قد يكون معروفاً بنزولٍ من رواية الثقات، وهو معلومٌ عند أهل العلم، فوقع لي من طريق هؤلاء عالياً، فخرَّجته رجاء العلو، والحديث معروفٌ أصلُه عند أهل العلم من روايات الثقات.

ما معنى هذا الكلام؟ هناك في الحديث: العلو والنزول، وأشرف أنواع العلو: هو: تقليل عدد الوسائط، بأن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ (نظيفٍ) وبِعددٍ قليل.

يعني مثلاً: عُدَّ معي: أحمد بن حنبل قال: حدَّثنا سفيان بن عيينة -ما شاء الله! حُفَّاظ- عن الزهري عن أنس، فهذا إسناد رباعي.

حسن كم هؤلاء؟! أربعة.

ولو قلنا: سفيان بن عيينة قال: حدثنا الزهري، عن أنس: كم بين سفيان وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ اثنان.

وكم بين أحمد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثلاثة.

فأيهما أعلى سنداً: سفيان أم أحمد؟ سفيان لماذا؟ لأن عدد الوسائط بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أقل، وهكذا، كلما كان الإسناد ثلاثياً كان أعلى، أو رباعياً كان أنزل، أما لو كان خماسياً فالرباعي أعلى منه، وهكذا.

فأعلى سند في البخاري بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، يسمونه العلماء: ثلاثيات البخاري.

<<  <  ج: ص:  >  >>