للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ كَلَامٍ طويل على أولية اللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ مِنَ الْغِنَى التَّامِّ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِأَوَّلِيَّتِهِ تَعَالَى فَقَطْ بَلْ جَمِيعُ مَا يَبْدُو لِلْقُلُوبِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ بِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِ وَقِسْمِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَقِيَامِهِ بِعُبُودِيَّتِهَا, فَمَنْ شَهِدَ مَشْهَدَ عُلُوِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَفَوْقِيَّتِهِ لِعِبَادِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهَا أَعْرَفُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَتَعَبَّدَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الصِّفَةِ, بِحَيْثُ يَصِيرُ لِقَلْبِهِ صَمَدٌ يَعْرُجُ إِلَيْهِ مُنَاجِيًا لَهُ مُطْرِقًا وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْهِ وُقُوفَ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ, فَيَشْعُرُ بِأَنَّ كَلِمَهُ وَعِلْمَهُ صَاعِدٌ إِلَيْهِ مَعْرُوضٌ عَلَيْهِ مَعَ أَوْفَى خَاصَّتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فَيَسْتَحِي أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهِ مِنْ كَلِمِهِ مَا يُخْزِيهِ وَيَفْضَحُهُ هُنَاكَ وَيَشْهَدُ نُزُولَ الْأَمْرِ وَالْمَرَاسِيمِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى أَقْطَارِ الْعَوَالِمِ كُلَّ وَقْتٍ بِأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْعَزْلِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَكَشْفِ الْبَلَاءِ وَإِرْسَالِهِ وَتَقَلُّبِ الدُّوَلِ وَمُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمَمْلَكَةِ الَّتِي لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا سِوَاهُ فَمَرَاسِيمُهُ نَافِذَةٌ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السَّجْدَةِ: ٥] فَمَنْ أَعْطَى هَذَا الْمَشْهَدَ حَقَّهُ مَعْرِفَةً وَعُبُودِيَّةً اسْتَغْنَى بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ مَشْهَدَ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا في السموات وَلَا فِي قَرَارِ الْبِحَارِ وَلَا تَحْتَ أَطْبَاقِ الْجِبَالِ بَلْ أَحَاطَ بِذَلِكَ عِلْمُهُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا ثُمَّ تَعَبَّدَ بِمُقْتَضَى هَذَا الشُّهُودِ مِنْ حراسة خواطره وإراداته وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَعَزَمَاتِهِ وَجَوَارِحِهِ عَلِمَ أَنَّ حَرَكَاتِهِ الظَّاهِرَةَ والباطنة وخواطره وإراداته وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِ ظَاهِرَةٌ مَكْشُوفَةٌ لَدَيْهِ عَلَانِيَةً بَادِيَةٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْعَرَ قَلْبَهُ صِفَةَ سَمْعِهِ سُبْحَانَهُ لِأَصْوَاتِ عِبَادِهِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَجَهْرِهَا وَخَفَائِهَا وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لا يشغله حهر مَنْ جَهَرَ عَنْ سَمْعِهِ صَوْتَ مَنْ أَسَرَّ وَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْأَصْوَاتُ عَلَى كَثْرَتِهَا واختلافها واجتماعها بل هي عِنْدَهُ كُلُّهَا كَصَوْتٍ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّ خَلْقَ الْخَلْقِ جَمِيعِهِمْ وَبَعْثَهُمْ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ إِذَا شَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ الْبَصِيرِ جَلَّ جَلَالُهُ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي حِنْدِسِ الظَّلْمَاءِ وَيَرَى تَفَاصِيلَ خَلْقِ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ وَمُخَّهَا وَعُرُوقَهَا وَلَحْمَهَا وَحَرَكَتِهَا وَيَرَى مَدَّ الْبَعُوضَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>