للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنْكَارُ مَسْأَلَةِ الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ, فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَصَّلُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُبَايِنٍ لِهَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ صَارُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِلَّا الْمُكَابَرَةُ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْدُومٌ لَا وُجُودَ لَهُ, إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ إِمَّا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَإِمَّا خَارِجًا عَنْهُ, وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ, فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ أَوْ مُحَايِثًا لَهُ إِمَّا دَاخِلًا فِيهِ وَإِمَّا خَارِجًا عَنْهُ. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ هُوَ عَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ, فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ, إِذْ هُوَ عَيْنُهُ, وَالشَّيْءُ لَا يُبَايِنُ نَفْسَهُ وَلَا يُحَايِثُهَا, فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْدُومٌ, وَرَأَوْا أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ هَذَا إِلَى إِثْبَاتِ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَلَا مُبَايِنٍ لَهُ وَلَا مُحَايِثٍ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا خَلْفَهُ ولا أمامه فرارا إِلَى مَا لَا يُسِيغُهُ عَقْلٌ وَلَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ وَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّ بِرَبٍّ هَذَا شَأْنُهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ سَارِيًا فِيهِ حَالًّا فِيهِ فَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ, وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْجَهْمِيَّةِ الْأَقْدَمِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ سُبْحَانَهُ وُجُودًا عَقْلِيًّا إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ لَكَانَ إِمَّا عَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ غَيْرَهُ, وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَكَانَ إِمَّا بَائِنًا عَنْهُ أَوْ حَالًّا فِيهِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ, فَثَبَتَ أَنَّهُ عَيْنُ هَذَا الْعَالَمِ فَلَهُ حِينَئِذٍ كُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَكُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ وَنَقْصٍ وَكُلُّ كَلَامٍ حَقٍّ وَبَاطِلٍ, نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي مَذْهَبُ "الْفَلَاسِفَةِ" الْمُتَأَخِّرِينَ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو, وَهُمُ الَّذِينَ يَحْكِي ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ وَالطُّوسِيُّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَيْضٌ فَاضَ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى النُّفُوسِ الْفَاضِلَةِ الزَّكِيَّةِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا, فَأَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ الْفَيْضُ تَصَوُّرَاتٍ وَتَصْدِيقَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَبِلَتْهُ مِنْهُ. وَلِهَذِهِ النُّفُوسِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قُوَى: قُوَّةُ التَّصَوُّرِ, وَقُوَّةُ التَّخَيُّلِ, وَقُوَّةُ التَّعْبِيرِ. فَتُدْرِكُ بِقُوَّةِ تَصَوُّرِهَا مِنَ الْمَعَانِي مَا يَعْجِزُ عَنْ غَيْرِهَا, وَتُدْرِكُ بِقُوَّةِ تَخَيُّلِهَا شَكْلَ الْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ, فَتَتَصَوَّرُ الْمَعْقُولَ صُوَرًا نُورَانِيَّةً تُخَاطِبُهَا وَتُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ الْآذَانُ, وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ, وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ الْخَيَالِيَّةِ الْوَهْمِيَّةِ قَالُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>