للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَذَلِكَ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَادِحٌ فِي تَمَامِ التَّوْحِيدِ وَكَمَالِهِ؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ الشَّرْعُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الذنوب التي منشؤها مِنْ هَوَى النَّفْسِ أَنَّهَا كُفْرٌ وَشِرْكٌ كَقِتَالِ الْمُسْلِمِ وَمَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَشِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ, وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْإِلَهِ عَلَى الْهَوَى الْمُتَّبَعِ قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الْفَرْقَانِ: ٤٣] قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ١، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوَى شَيْئًا رَكِبَهَ, وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ٢. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: "مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ"٣، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَا تَزَالُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَدْفَعُ عَنْ أَصْحَابِهَا حَتَّى يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ وَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ"٤. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ, تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ, تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ, تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ, تَعِسَ وَانْتَكَسَ, وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ" ٥, فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَأَطَاعَهُ وَكَانَ مِنْ غَايَةِ قَصْدِهِ وَمَطْلُوبِهِ وَوَالَى لِأَجْلِهِ وَعَادَى لِأَجْلِهِ, فَهُوَ عَبْدُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْبُودَهُ وَإِلَهَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي مَعْصِيَتِهِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: ٦٠] . وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مَرْيَمَ: ٤٤] فَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِعُبُودِيَّةِ الرَّحْمَنِ وَطَاعَتِهِ فَإِنَّهُ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ بِطَاعَتِهِ, وَلَمْ يَخْلُصْ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ عُبُودِيَّةَ


١ أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم "الدر المنثور ٦/ ٢٦٠".
٢ أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم "الدر المنثور ١/ ٢٦٠".
٣ رواه ابن أبي عاصم في السنة "ح٣" والطبراني في الكبير "المجمع ١/ ١٩٣" وأبو نعيم في الحلية "٦/ ١١٨" وابن الجوزي في الموضوعات "٣/ ١٣٩" وسنده موضوع.
٤ رواه أبو يعلى "المطالب العالية ح٣٢٧٤" وقال البوصيري: سنده ضعيف.
٥ البخاري "٦/ ٨١" في الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله, وفي الرقاق, باب ما يتقى من فتنة المال.

<<  <  ج: ص:  >  >>